امت - صفحه 28

۱۴.الإمام عليّ عليه السلامـ في خُطبَةٍ لَهُ ـ :لَو أرادَ اللّهُ جَلَّ ثَناؤُهُ بِأَنبِيائِهِ حَيثُ بَعَثَهُم أن يَفتَحَ لَهُم كُنوزَ الذِّهبانِ ، ومَعادِنَ العِقيانِ ۱ ، ومَغارِسَ الجِنانِ ، وأن يَحشُرَ طَيرَ السَّماءِ ووَحشَ الأَرضِ مَعَهُم لَفَعَلَ ، ولَو فَعَلَ لَسَقَطَ البَلاءُ ، وبَطَلَ الجَزاءُ ، وَاضمَحَلَّتِ الأَنباءُ ، ولَما وَجَبَ لِلقائِلينَ اُجورُ المُبتَلَينَ ، ولا لَحِقَ المُؤمِنينَ ثَوابَ المُحسِنينَ ، ولا لَزِمَتِ الأَسماءُ أهالِيَها عَلى مَعنىً مُبينٍ ۲ ، ولِذلِكَ لَو أنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّت أعناقُهُم لَها خاضِعينَ ، ولَو فَعَلَ لَسَقَطَ البَلوى عَنِ النّاسِ أجمَعينَ ، و لكِنَّ اللّهَ جَلَّ ثَناؤُهُ جَعَلَ رُسُلَهُ اُولي قُوَّةٍ في عَزائِمِ نِيّاتِهِم ، وضَعَفَةٍ فيما تَرَى الأَعيُنُ مِن حالاتِهِم ؛ مِن قَناعَةٍ تَملَأُ القُلوبَ وَالعُيونَ غَناؤُهُ ، وخَصاصَةٍ ۳ تَملَأُ الأَسماعَ وَالأَبصارَ أذاؤُهُ .
ولَو كانَتِ الأَنبِياءُ أهلَ قُوَّةٍ لا تُرامُ وعِزَّةٍ لا تُضامُ ، ومُلكٍ يُمَدُّ نَحوَهُ أعناقُ الرِّجالِ ويُشَدُّ إلَيهِ عُقَدُ الرِّحالِ ، لَكانَ أهونَ عَلَى الخَلقِ فِي الاِختِبارِ ، وأبعَدَ لَهُم فِي الاِستِكبارِ ، ولَامَنوا عَن رَهبَةٍ قاهِرَةٍ لَهُم أو رَغبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِم ، فَكانَتِ النِّيّاتُ مُشتَركَةً والحَسَناتُ مُقتَسَمَةً ، ولكِنَّ اللّهَ أرادَ أن يَكونَ الاِتِّباعُ لِرُسُلِهِ ، وَالتَّصديقُ بِكُتُبِهِ ، وَالخُشوعُ لِوَجهِهِ ، وَالاِستِكانَةُ لِأَمرِهِ ، وَالاِستِسلامُ لِطاعَتِهِ ، اُموراً لَهُ خاصَّةً لا تَشوبُها مِن غَيرِها شائِبةٌ ، وكُلَّما كانَتِ البَلوى وَالاِختِبارُ أعظَمَ كانَتِ المَثوبَةُ وَالجَزاءُ أجزَلَ .
ألا تَرَونَ أنَّ اللّهَ جَلَّ ثَناؤُهُ اختَبَرَ الأَوَّلينَ مِن لَدُن آدَمَ إلَى الآخِرينَ مِن هذَا العالَمِ ، بِأَحجارٍ لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولا تُبصِرُ ولا تَسمَعُ ، فَجَعَلَها بَيتَهُ الحَرامَ الَّذي جَعَلَهُ لِلنّاسِ قِياماً ، ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوعَرِ بِقاعِ الأَرضِ حَجَراً ، وأقَلِّ نَتائِقِ ۴ الدُّنيا مَدَراً ، وأضيَقِ بُطونِ الأَودِيَةِ مَعاشاً ، وأغلَظِ مَحالِّ المُسلِمينَ مِياهاً ، بَينَ جِبالٍ خَشِنَةٍ ، ورِمالٍ دَمِثَةٍ ۵ ، وعُيونٍ وَشِلَةٍ ۶ ، وقُرىً مُنقَطِعَةٍ ، وأثَرٍ مِن مَواضِعِ قَطرِ السَّماءِ داثِرٍ ، لَيس يَزكو بِهِ خُفٌّ ولا ظِلفٌ ولا حافِرٌ .
ثُمَّ أمَرَ آدَمَ ووُلدَهُ أن يَثنوا أعطافَهُم نَحوَهُ ، فَصارَ مَثابَةً ۷ لِمُنتَجَعِ ۸ أسفارِهِم ، وغايَةً لِمَلقى رِحالِهِم ، تَهوي إلَيهِ ثِمارُ الأَفئِدَةِ مِن مَفاوِزِ قِفارٍ مُتَّصِلَةٍ ، وجَزائِرِ بِحارٍ مُنقَطِعَةٍ ، ومَهاوي فِجاجٍ عَميقَةٍ ، حَتّى يَهُزّوا مَناكِبَهُم ذُلُلاً ، يُهَلِّلونَ للّهِِ حَولَهُ ، ويَرمُلونَ ۹ عَلى أقدامِهِم شُعثاً غُبراً لَهُ ، قَد نَبَذُوا القُنُعَ وَالسَّرابيلَ وَراءَ ظُهورِهِم ، وحَسَروا بِالشُّعورِ حَلقاً عَن رُؤوسِهِمُ ، ابتِلاءً عَظيماً ، وَاختِباراً كَبيراً ، وَامتِحاناً شَديداً ، وتَمحيصاً بَليغاً ، وقُنوتاً مُبيناً ، جَعَلَهُ اللّهُ سَبَباً لِرَحمَتِهِ ، و وُصلَةً ووَسيلَةً إلى جَنَّتِهِ ، وعِلَّةً لِمَغفِرَتِهِ ، وَابتِلاءً لِلخَلقِ بِرَحمَتِهِ .
ولَو كانَ اللّهُ تَبارَكَ و تَعالى وَضَعَ بَيتَهُ الحَرامَ ومَشاعِرَهُ العِظامَ بَينَ جَنّاتٍ وأنهارٍ ، وسَهلٍ وقَرارٍ ، جَمَّ الأَشجارِ ، دانِيَ الثِّمارِ ، مُلتَفَّ النَّباتِ ، مُتَّصِلَ القُرى ، مِن بُرَّةٍ ۱۰ سَمراءَ ، ورَوضَةٍ خَضراءَ ، وأريافٍ مُحدِقَةٍ ، وعِراصٍ ۱۱ مُغدِقَةٍ ، وزُروعٍ ناضِرَةٍ ، وطُرُقٍ عامِرَةٍ ، وحَدائِقَ كَثيرَةٍ ، لَكانَ قَد صَغُرَ الجَزاءُ عَلى حَسَبِ ضَعفِ البَلاءِ ، ثُمَّ لَو كانَتِ الأَساسُ المَحمولُ عَليها وَالأَحجارُ المَرفوعُ بِها ، بَينَ زُمُرُّدَةٍ خَضراءَ وياقوتَةٍ حَمراءَ ونورٍ وضِياءٍ ، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُصارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدورِ ، ولَوَضَعَ مُجاهَدَةَ إبليسَ عَنِ القُلوبِ ، ولَنَفى مُعتَلِجَ الرَّيبِ مِنَ النّاسِ ، ولكِنَّ اللّهَ عز و جل يَختَبِرُ عَبيدَهُ بِأَنواعِ الشَّدائِدِ ، ويَتَعَبَّدُهُم بِأَلوانِ المَجاهِدِ ، ويَبتَليهِم بِضُروبِ المَكارِهِ ؛ إخراجاً لِلتَّكَبُّرِ مِن قُلوبِهِم ، وإسكاناً لِلتَّذَلُّلِ في أنفُسِهِم ، ولِيَجعَلَ ذلِكَ أبواباً فُتُحاً إلى فَضلِهِ ، وأسباباً ذُلُلاً لِعَفوِهِ وفِتنَتِهِ ، كَما قالَ : «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» . ۱۲

1.العِقيان من الذهب : الخالص (الصحاح : ج ۶ ص ۲۴۳۳ «عقا») .

2.قال المجلسي قدس سره : «ولا لزمت الأسماء» كالمؤمن والمتّقي والزاهد والعابد (مرآة العقول : ج ۱۷ ص ۲۴).وفي نهج البلاغة : «ولا لزمت الأسماء معانيها» وليس فيه : «على معنىً مبين» .

3.الخَصاصة : الفَقر والحاجَة (المصباح المنير : ص ۱۷۱ «خصص») .

4.النّتائِق : جمع نَتيقة، فعيلة بمعنى مفعولة؛ من النّتق : وهو أن تقلع الشيءَ فترفعه من مكانه لِترمي به، هذا هو الأصل، وأراد بها هاهنا البلاد؛ لِرَفع بنائها، وشهرتها في موضعها (النهاية : ج ۵ ص ۱۳ «نتق») .

5.دَمِثَ المكانُ دَمَثا : لانَ وسَهُلَ (النهاية : ج ۲ ص ۱۳۲ «دمث») .

6.الوَشَل : الماء القليل (النهاية : ج ۵ ص ۱۸۹ «وشل»).

7.المَثابَةُ : المجتمعُ والمنزل ، لأنّ أهله يثوبون إليه أي يرجعون (لسان العرب : ج ۱ ص ۲۴۵ «ثوب») .

8.المُنتَجَعُ : المَنزِلُ في طلب الكلأ (لسان العرب : ج ۸ ص ۳۴۷ «نجع») .

9.رَمَلَ : إذا أسرع في المشي وهزّ منكبيه (النهاية : ج ۲ ص ۲۶۵ «رمل») .

10.البُرّ : الحنطة (لسان العرب : ج ۴ ص ۵۵ «برر») .

11.العَرصَة : كلّ بقعةٍ بين الدور واسعة ليس فيها بناء . و تجمع عراصاً وعَرَصات (لسان العرب : ج ۷ ص ۵۲ «عرص») .

12.الكافي : ج ۴ ص ۱۹۸ ح ۲ ، نهج البلاغة : الخطبة ۱۹۲ نحوه، بحارالأنوار : ج ۱۴ ص ۴۶۹ ح ۳۷ .

صفحه از 314