خطبه ولم يكن لأمير المؤمنين عذر في ذلك ، فقال لهم المأمون : شأنكم وذلك متى أردتم فخرجوا من عنده .
واجتمع رأيهم على القاضي يحيى بن أكثم ۱ أن يكون هو الّذي يسأله ويمتحنه وقرّروا ذلك مع القاضي يحيى ووعدوه بأشياء كثيرة متى قطعه وأخجله ، ثمّ عادوا إلى المأمون وسألوه أن يعيّن لهم يوما يجتمعون فيه بين يديه لمسألته ، فعيّن لهم يوما فاجتمعوا في ذلك اليوم بين يدي أمير المؤمنين المأمون ، وحضر العباسيون ومعهم القاضى يحيى بن أكثم ، وحضر خواصّ الدوله وأعيانها من اُمرائها وحجّابها وقوّادها ، وأمر المأمون بأن يفرش لأبي جعفر محمّد الجواد عليه السلام فرشا حسنا وأن يجعل عليه مسورتان ۲ ، ففعل ذلك ، وخرج أبو جعفر فجلس بين المسورتين ، وجلس القاضي يحيى مقابله ، وجلس الناس في مراتبهم على قدر طبقاتهم ومنازلهم .
فأقبل يحيى بن أكثم على أبي جعفر فسأله عن مسائل أعدّها له ، فأجاب ۳
1.هو يحيى بن أكثم التميمي القاضي كان متكلّما ، عالما فقيها في عصره ، أحد وزراء المأمون قاضيا في العراقيين . انظر ترجمته في ابن خلّكان والمسعودي والأعلام للزركلي .
2.مسور : متّكأ من جلد . وفي (أ) : مصورتان ... المصورتين .
3.نورد نصّ المسألة الّتي أوردها يحيى بن أكثم وجواب الإمام عليه السلام له عنها وذلك من إرشاد الشيخ المفيد : ۲ / ۲۸۳ ـ ۲۸۶ .
قال يحيى بن أكثم للمأمون : يأذن لي أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمونُ : استأذنه في ذلك ، فأقبلَ عليه يحيى بن أكثم فقال : أتأذنُ لي جعلت فداك في مسألةٍ؟ فقال له أبوجعفر عليه السلام : سَلْ شِئْتَ ، قال يحيى : ما تقولُ جُعِلْتُ فداك في مُحرِمٍ قتل صَيْدا؟
فقال له أبو جعفر : قتلهُ في حِلٍّ أو حَرَم؟ عالما كان المُحْرِمُ أم جاهلاً؟ قتله عمدا أو خطا؟ حُرّا أو خطا؟ حُرّا كان المُحْرِمُ أم عَبدا؟ صغيرا كان أم كبيرا؟ مُبتدئا بالقتل أم مُعيدا؟ من ذوات الطير كان الصيدُ أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم كبارها؟ مُصِرّا على ما فَعَلَ أو نادما؟ في الليل كان قَتلَهُ للصيدِ أم نهارا؟ مُحرما كان بالعُمرةِ إذْ قَتَله أو بالحجّ كان مُحرِما؟
فَتَحيَّرَ يحيى بن أكثم وبان في وجهه العَجْزُ والانقطاعُ ولَجْلَجَ حتّى عَرَف جماعةُ أهل المجلس أمْرَه ، فقال المأمونُ : الحمد للّه ِ على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثمّ نظر إلى أهل بيته وقال لهم : أعَرفتُمُ الآن ما كنْتُم تُنكِروُنه؟
ثمّ أقبل على أبي جعفر عليه السلام فقال له : أتَخطُب يا أباجعفر؟ قال : نعم يا أميرالمؤمنين ، فقال له المأمونُ : اخْطُب جُعِلْتُ فداك لِنَفْسكَ فقد رضيتك لنفسي وأنا مُزوّجُك اُمّ الفضل ابنتي وإن رَغَمَ قومٌ لذلك .
فقال أبو جعفر عليه السلام : الحمد للّه إقرارا بنعمته ، ولا إلهَ إلاّ اللّه إخلاصا لوحدانيته ، وصَلّى اللّه عَلى محمّدٍ سيّد برّيته والأصفياءِ من عترته .
أمّا بعد ، فقد كان من فضل اللّه على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال سبحانه : «وَأَنكِحُواْ الْأَيَـمَى مِنكُمْ وَالصَّــلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ» ثمّ إن محمّد بن علي بن موسى يَخطُبُ اُمّ الفضل بنت عبد اللّه المأمونِ ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد عليهماالسلام وهو خمسمائة درهم جيادا ، فهل زَوّجْتَهُ يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور؟
قال المأمون : نعم ، قد زَوّجْتُك أبا جعفر اُمّ الفضل ابنَتيعلى هذا الصداق المذكور ، فهل قَبِلْتَ النكاح؟
قال أبوجعفر عليه السلام قد قَبِلْتُ ذلك ورضيت به .
فأمَرَ المأمون أن يقعدَ الناسُ على مراتبهم في الخاصّةِ والعامّة .
قال الرّيان : ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تُشْيهُ أصْواتَ المَلاّحين في مُحاوراتهم ، فإذا الخدم يَجُرُّون سفينةً مَصْنوعةً من فضَّةٍ مَشْدُودةٍ بالحبال من الإبريسم على عَجلٍ مملوءةً من الفاليةِ ، فأمَرَ المأمون أن تُخضَبَ لِحَى لخاصه من تلك الغاليةِ ، ثمّ مُدَّت إلى دار العامّة فطُيِّبوا منها ، ووُضِعَتِ الموائدُ فأكلَ الناسُ ، وخرجتِ الجوائزُ إلى كلّ قوم على قدرهم ، فلمّا تفرّق الناس وبقي من الخاصّة من بقي قال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت جُعلت فداك أن تذكُرَ الفِقهَ فيما فصّلتهُ من وجوه قتل المُحْرم الصيدَ لنعلمه ونستفيدَه .
فقال أبو جعفر عليه السلام : نعم ، إنّ المُحرمَ إذا قَتلَ صيدا في الحِلِّ وكان الصيدُ من ذوات الطير وكان كبارها فعليه شاةٌ ، فإن كان أصحابه في الحَرمَ فعليه الجزاءُ مضاعفا ، وإذا قَتَلَ فرخا في الحِلِّ فعليه حَملٌ فد فُطِمَ من اللبن وإذا قَتلَه في الحرمِ فعليه الحملُ وقيمة الفرخِ ، وإن كان من الوحش وكان حمارِ وَحشٍ فعليه بقرةٌ وإن كان نعامةً فعليه بدنةٌ ، وإن كان ظبْيا فعليه شاةٌ ، فإن قَتلَ شيئا من ذلك في الحَرَمِ فعليه الجزاءُ مضاعَفا هدْيا بالغَ الكعبة ، أصابَ الُحرِمُ يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامُه للحجِّ نَحَرهُ بمنى ، وإن كان إحرامُه للعُمْرة نَحَرهُ بمكّةَ . وجزاءُ الصيد على العالِم والجاهل سواء ، وفي العَمدِ له المأثم ، وهو موضوعٌ عنهُ في الخطأ ، والكفارةُ على الحُرِّ في نفسه ، وعلى السيّد في عبده ، والصغيرُ لا كفّارة عليه ، وهي على الكبير واجبةٌ ، والنادمُ يسقطُ بندمه عنه عقابُ الآخرة ، والمُصِرُّ يجب عليه العقابُ في الآخرةِ .
فقال له المأمون : أحْسَنْتَ أبا جعفر أحْسَنَ اللّه ُ إليك ، فإنْ رأيْتَ أن تسألَ يحيى عن مسألةٍ كما سألك .
فقال : أبو جعفر ليحيى : أسألُك؟
قال : ذلك إليك جعلت فداك فإن عَرفتُ جوابَ ما تسألُني عنه و إلاّ ستفدتُه منك .
فقال له أبو جعفر عليه السلام : خَبِّرنْي عن رجل نَظَرَ إلى امرأةٍ في أوّل النهار . . . الخ .