135
المناهج الروائية عند الشریف المرتضی

نسخ القرآن الكريم بالسنّة الشريفة

يقسّم الشريف المرتضى قدس سره السنّة إلى قسمين :
1 . قسم مقطوعة معلومة.
2 . وقسم واردة من طريق الآحاد .
والقسم الأوّل : لا ينسخ القرآن بها كما عن الشافعي ومن وافقه .
والقسم الثاني : فأكثر الناس على أنّه لا يقع بها نسخ القرآن . نعم ، خالف أهل الظاهر وغيرهم في ذلك وادعوا وقوعه. ۱
ويقول الشريف المرتضى قدس سره بالنسبة إلى القسم الثاني : « والّذي يبطل أن ينسخ
القرآن بما ليس بمعلوم من السنّة أنّ هذا فرع مبني على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ؛ لأنّ من يجوّز النسخ يعتمد على أنّه كما جاز التخصيص به وترك الظاهر لأجله، والعمل به في الأحكام المبتدأة، جاز النّسخ ـ أيضاً ـ به .
وأنّ دليل وجوب العمل بخبر الواحد مطلق غير مختصّ، فوجب حمله على العموم، وإذا بطل العمل بخبر الواحد في الشّرع، بما سنتكلّم عليه عند الكلام في الأخبار بمشيئة اللّه تعالى، بطل النسخ؛ لأنّ كلّ من لم يعمل به في غير النسخ لا ينسخ به، فالقول بالنّسخ مع الامتناع من العمل أصلاً خارج عن الإجماع .
وهذا أولى ممّا يمضي في الكتب من أنّ الصحابة ردّت أخبار الآحاد إذا كان فيها ترك للقرآن ؛ لأنّ الخصوم لا يسلّمون ذلك ، ولأنّه يلزم عليه ألاّ يخصّص الكتاب بخبر الواحد ، لأنّ فيه تركاً لظاهره .
وليس يجب من حيث تعبّدنا اللّه بالعمل بخبر الواحد في غير النّسخ ـ إذا سلمنا ذلك وفرضناه ـ أن نعدّيه إلى النّسخ بغير دليل ؛ لأنّ العبادة لا يمتنع اختصاصها بموضع دون موضع ، فمن أين إذا وقعت العبادة بالعمل به في غير النّسخ ، فقد وقعت في النّسخ ، وأحد الموضعين غير الآخر ، وليس هاهنا لفظ عام يدّعى دخول الكلّ فيه ». ۲
ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يضعّف قول الشافعي الّذي ذهب إلى أنّ السنّة الشريفة لا ينسخ بها القرآن الكريم ، حتّى أنّه يدعي أنّه كيف استمرت الشبهة بالشافعي في ذلك ؟ ! ۳
ويستدلّ الشريف المرتضى قدس سره بدليلين على فساد دعوى الشافعي ، وإثبات أنّ السنّة المعلومة المقطوعة ينسخ بها القرآن الكريم :
الدليل الأوّل : على شكل قياس منطقي ، يقول :
أ ـ إنّ السنّة المعلومة تجري مجرى الكتاب الكريم في وجوب العلم والعمل.
ب ـ إنّ الكتاب الكريم ينسخ بعضه بعضا.
ج ـ فيجوز النسخ بالسنّة المعلومة.
الدليل الثاني: كذلك مركب من قياس منطقي ، وهو:
أ ـ إنّ النسخ يتناول الحكم.
ب ـ والسنّة في الدلالة عليه كدلالة القرآن الكريم.
ج ـ فيجب جواز النسخ بها .
ثمّ يطرح الشريف المرتضى قدس سره تسائلاً في البين ، يؤكّد فيه على أنّه ليس لأحد أن يقول: إنّ السنّة تدلّ كدلالة القرآن ؛ لأنّها إذا وردت بحكم يضاد القرآن أنزل اللّه تعالى قرآنا يكون هو الناسخ .
يقول الشريف المرتضى قدس سره ردّا على هذا الإشكال :
«إنّ هذه دعوى لابرهان لمدعيها ، ومن أين أنّ الأمر على ذلك ؟ ! ولو قدرنا أنّه تعالى لم ينزل ذلك القرآن كيف كان يكون حال تلك السنّة ، فلابدَّ من الاعتراف باقتضائها النسخ ، ثمّ إذا اجتمعا لِمَ صار الناسخ هو القرآن دون السنّة ، وحكم كلّ واحد من الدليلين حكم صاحبه ؟ !
وإذا كان نسخ الحكم بحكم يضاده فلا فرق بين أن يكشف عن ذلك الحكم المضاد سنة أو القرآن» ۴ .
ثمّ ينقل الشريف المرتضى قدس سره أربعة أدلّة قرآنية على أنّ السمع منع من نسخ الكتاب الكريم بالسنّة الشريفة :
الدليل الأوّل : قوله تعالى: «وَ إِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ»۵ فبيّن تعالى أنّ تبديل الآية إنّما يكون بالآية .
وأجاب الشريف المرتضى قدس سره: «أنّ الظاهر لادلالة فيه على أنّه لا يبدل الآية إلاّ بالآية ، وإنّما قال تعالى: «وَ إِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ» ؛ ولأنّ الخلاف في نسخ حكم الآية ، والظاهر يتناول نفس الآية ». ۶
وقريب من هذا الدليل الثاني، ۷ والدليل الثالث. ۸
نعم ، الدليل الثالث فيه شيء من التفاصيل التوضيحية حيث أكّد على أنّ قوله تعالى : «وَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»۹ ، فجعله اللّه تعالى مبينا للقرآن ، والبيان ضدّ النسخ والإزالة.
يقول الشريف المرتضى قدس سره: « والجواب عن الثاني أنّه ـ أيضا ـ لا يتناول موضع الخلاف ؛ لأنّه إنّما نفى أن يكون ذلك من جهته ، بل بوحي من اللّه تعالى سواء كان ذلك قرآنا أو سنّة.
والجواب عن الثالث : أنّ النسخ يدخل في جملة البيان ؛ لأنّه بيان مدّة العبادة ، وصفة ماهو بدل منها .
وقد قيل : إنّ المراد هاهنا بالبيان التبليغ والأداء ، حتّى يكون القول عامّا في جميع المنزّل، ومتى حمل على غير ذلك كان خاصّا في المجمل .
على أنّ النسخ لو انفصل عن البيان ، لم نمنع أن يكون ناسخا وإن كان مبيّنا ، كما
لم يمنع كونه مبيّنا من كونه مبتدئا للأحكام، وقد وصف اللّه تعالى القرآن بأنّه بيان ، ولم يمنع ذلك من كونه ناسخا » ۱۰ .
ثمّ يتعرّض الشريف المرتضى قدس سره إلى الدليل الرابع وهو قوله تعالى : «مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ» . ۱۱
وقد وجهت الآية على المدعى بأربعة وجوه:
الوجه الأوّل : أنّه لما قال تعالى: « نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ » كان الكلام محتملاً للكتاب وغيره ، فلمّا قال بعد ذلك : «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ»۱۲؛ علم أنّه أراد مايختصّ هو تعالى بالقدرة عليه من القرآن المعجز .
ومنها : أنّه قال تعالى : « نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ » ، فأضاف ذلك إلى نفسه ، والسنّة لاتضاف إليه حقيقة .
ومنها : أنّ الظاهر من قول القائل : «لا آخذ منك ثوبا إلاّ وأعطيك خيرا منه» أنّ المراد أعطيك ثوبا من جنس الأوّل .
ومنها : أنّ الآية إنّما تكون خيرا من الآية بأن تكون أنفع منها، والانتفاع بالآية يكون بتلاوتها وامتثال حكمها ، فيجب أن يكون ما يأتي به يزيد في النفع على ما ينسخه في كلا الوجهين، والسنّة لا يصحّ لها إلاّ أحدهما .
والجواب عمّا تعلّقوا به أولاً : هو أنّ الظاهر لا دلالة فيه على أنّه لا يبدل الآية إلاّ بالآية ، وإنّما قال تعالى: « وَ إِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ » ؛ ولأنّ الخلاف نسخ حكم الآية ، والظاهر يتناول نفس الآية. ۱۳
وأجاب عنه الشريف المرتضى قدس سره بجواب مفصّل قائلاً : والجواب عن الرابع : أنّ
الآية أيضا لا تتناول موضع الخلاف ؛ لأنّها تتناول نفس الآية ، والخلاف في حكمها .
على أنّ الظاهر لا يدلّ على إنّ الّذي يأتي به يكون ناسخا ، وهو موضع الخلاف ، وهو إلى أن يدلّ على أنّه غير ناسخ أقرب ، لأنّه تعالى قال : «مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ » ، وهذا يدلّ على تقدّم النسخ على إنزال ما هو خير منها، فيجب ألاّ يكون النسخ بها وهو متقدّم عليها، ومعنى « بِخَيْرٍ مِّنْهَآ » أي أصلح لنا ، وأنفع في ديننا، وأنا نستحقّ به مزيد الثواب . وليس يمتنع على هذا أن يكون مايدلّ عليه السنّة من الفعل الناسخ أكثر ثوابا وأنفع لنا ممّا دلّت عليه الآية من الفعل المنسوخ .
والشناعة بأنّ السنّة خير من القرآن تسقط بهذا البيان، وبأنّ القرآن أيضا لا يقال بأنّ بعضه خير من بعض بالإطلاق ، وقد ينسخ بعضه ببعض ، فإذا فصّلوا وفسّروا فعلنا مثل ذلك . فأمّا إضافة ذلك إليه تعالى وأنّ ذلك بالكتاب أليق منه بسنّة ؛ فالإضافة صحيحة على الوجهين ؛ لأنّ السنّة إنّما هي بوحيه تعالى وأمره ، فإضافتها إليه كإضافة كلامه .
وقوله تعالى : « أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ »۱۴ لا يدلّ على ما يكون به النسخ ، وإنّما يقتضي أنّه تعالى قادر على أن ينسخ الفعل بما هو أصلح في الدّين منه، كان الدليل على ذلك كتابا أو سنّة .
وغير مسلم أنّ القائل إذا قال لأحد: لا آخذ منك كذا وكذا إلاّ وأعطيك خيرا منه، أنّ الثاني يجب أن يكون من جنس الأول ، بل لو صرّح بخلاف ذلك لحسن ؛ لأنّه لو قال: « لا آخذ منك ثوبا إلاّ وأعطيك فرسا خيرا منه » لما كان قبيحا ، وقد بيّنا معنى «خيرا منها». فليس يمتنع أن نكون السنّة وانتفع بها من وجه واحد أصلح لنا من الآية ، وإن كان الانتفاع بها من وجهين؛ لأنّ الانتفاع الّذي هو الثواب قد يتضاعف فلا ينكر أن يزيد ، والوجه واحد على الوجهين ، على أنّ في درس السنّة وتلاوتها
أيضا ثوابا وقربة وعبادة. ۱۵

1.المصدر السابق : ص ۴۶۱ .

2.المصدر السابق : ص ۴۶۱ ـ ۴۶۲ .

3.المصدر السابق : ص ۴۶۲.

4.المصدر السابق : ص ۴۶۳.

5.النحل : ۱۰۱ .

6.الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج ۱ ۴۶۵ ـ ۴۶۷.

7.المصدر السابق : ج ۱ ص ۴۶۵ ـ ۴۶۷ .

8.المصدر السابق : ج ۱ ص ۴۶۵ ـ ۴۶۷ .

9.النحل : ۴۴ .

10.المصدر السابق : ج ۱ ص ۴۶۵ ـ ۴۶۷ .

11.البقرة : ۱۰۶ .

12.البقرة : ۱۰۶ .

13.الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج ۱ ص ۴۶۶ .

14.البقرة : ۱۰۶ .

15.المصدر السابق : ص ۴۶۸ ـ ۴۷۰ .


المناهج الروائية عند الشریف المرتضی
134

النسـخ

النسخ في اللغة : هو الاستكتاب كالاستنساخ والانتساخ ، وبمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث والدهور ، وبمعنى الإزالة ، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين ، فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ.
ولكن النسخ في الاصطلاح: هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الاُمور الّتي ترجع إلى اللّه تعالى بما أنّه شارع ، وهذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط .
وإنّما قيّدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجاً،كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ،وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته ؛ فإنّ هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمّى نسخاً ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه، ولا خلاف فيه من أحد.
ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة له نحوان من الثبوت:
أحدهما : ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء ، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولاً على نحو القضية الحقيقية، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه ، وإنّما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع، فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام ـ مثلاً ـ فليس معناه أنّ هنا : خمراً في الخارج ، وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة ، بل معناه أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن. ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلاّ بالنسخ.
وثانيهما: ثبوت ذلك الحكم في الخارج، بمعنى أنّ الحكم يعود فعلياً بسبب فعلية
موضوعه خارجاً، كما إذا تحقّق وجود الخمر في الخارج، فإنّ الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها، فاذا انقلب الخمر خلاًّ فلاريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية الّتي ثبتت له في حال خمريته، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء، ولا كلام لأحد في جواز ذلك ولا في وقوعه، وإنّما الكلام في القسم الأول، وهو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء . ۱
ويوضّح الشريف المرتضى قدس سره حقيقة النسخ قائلاً:
1 . إنّها تغيّر حال المزيد عليه وتخرجه من كلّ أحكامه الشرعية.
2 . إنّها تتأخّر عن دليل الحكم المزيد عليه، وإلاّ إذا صاحبته أو تقدّمت عليه لم يكن نسخاً ۲ .

1.علوم القرآن عند المفسرين : ج ۲ ص ۵۷۵ ؛ البيان : ص ۲۹۵ ـ ۲۹۷ .

2.الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج ۱ ص ۴۶۰ .

  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند الشریف المرتضی
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 30582
صفحه از 358
پرینت  ارسال به