ثالثا : المبحث الاُصولي
1 . إتماما للنقطة الاُولى في النسخ يعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ النسخ هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه. سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من الاُمور الّتي
ترجع إلى اللّه تعالى بما أنّه شارع.
2 . إنّ الحكم المجعول في الشريعة له نحوان من الثبوت:
أ ـ ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولاً على نحو القضية الحقيقة، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه، وإنّما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع ، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلاّ بالنسخ.
ب ـ ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أنّ الحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا، فالحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا، وارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء.
3 . أمّا نسخ القرآن بالسنّة الشريفة ، فإنّ السنّة تقسم إلى قسمين:
أ ـ قسم مقطوعة معلومة.
ب ـ قسم واردة من طريق الآحاد.
والقسم الأوّل لا ينسخ القرآن بها.
والقسم الثاني لا ينسخ القرآن بما ليس معلوم من السنّة؛ لأنّه مبني على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة؛ لأنّ من يجوز النسخ يعتمد على أنّه كما جاز التخصيص به وترك الظاهر لأجله والعمل به في الأحكام المبتدأة ، جاز النسخ أيضا به وأنّ دليل وجوب العمل بخبر الواحد مطلق غير مختصّ، فوجب حمله على العموم، وإذا بطل العمل بخبر الواحد في الشرع بطل النسخ، ويقيم على ذلك عدّة أدلّةً سمعية وعقلية.
4 . أمّا نسخ السنّة الشريفة بالقرآن الكريم فكلّ شيء دلّ على أنّ السنّة مقطوع بها تنسخ القرآن الكريم يدلّ على هذه المسألة، بل هو هاهنا آكد وأوضح؛ لأنّ للقرآن الكريم المزية على السنّة الشريفة. وتقام على ذلك ثلاثة أدلّة سمعية تاريخية.
5 . أمّا نسخ الشريعة بعضها بالبعض الآخر فهو كذلك، أي أنّ كلّ دليل أوجب العلم والقطع واليقين فجائز النسخ به، وهنا مبني على وجوب العمل بأخبار الآحاد، فمن عمل بها في الشريعة نسخ بعضها ببعض، ومن لم يعمل بها لم ينسخ بها؛ لأنّ النسخ فرع وتابع لوجوب العمل.
6 . أمّا تخصيص عموم الكتاب بالسنّة الشريفة وبأخبار الآحاد، فإنّه لا شبهة في تخصيص العموم بكلّ دليل أوجب العلم من عقل وكتاب وسنة مقطوع عليها وإجماع. وأمّا تخصيصه بالسنّة فلا خلاف فيه، وقد وقع كثير منه ، وأمّا تخصيص عموم الكتاب الكريم بأخبار الآحاد فلا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، وإن كان جائزا أن يتعبّد اللّه تعالى بذلك فيكون واجبا غير أنّه تعالى ما تعبّدنا به.
7 . أمّا تخصيص العموم بأقوال الصحابة ، فإنّه حجّة في نفسه يصحّ تخصيص العموم به بلا خلاف في ذلك ، وإنّما الاشكال في انفراد أحد الصحابة بقول أو رأي فهل يخصّ العموم؟ والظاهر أنّ ذلك لا يصحّ . نعم ، بعض أقوال الصحابة حجّة ويخصّ به العموم ، كما لو كان هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
8 . هناك عدّة فوارق منهجية بين التخصيص والنسخ؛ لأنّ التخصيص في الشريعة يقع بأشياء لا يقع النسخ بها، والنسخ يقع بأشياء لا يقع التخصيص بها، فالأوّل كالقياس وأخبار الآحاد عند من ذهب إلى العبادة بهما، والثاني كنسخ شريعة باُخرى وفعل بفعل، وإن كان التخصيص لا يصلح في ذلك.
9 . ادّعى الشريف المرتضى قدس سره الإجماع على عدم العلم بالخبر الواحد، وإنّما يقتضى غلبة الظن بصدقه إذا كان عدلاً. نعم ، لا يمنع العقل من العبادة به ولو تعبّد اللّه تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحّة؛ لأنّ عبادته تعالى بذلك يوجب العلم الّذي لابدَّ أن يكون العمل تابعا له، وإن كانت العبادة ما وردت به، ويقيم على ذلك عدّة أدلّة مفصّلة.
10 . القائلون بالتواتر على ضربين:
أ ـ إنّ الخبر المتواتر فعل اللّه تعالى عنده للسامعين العلم الضروري بمخبره.
ب ـ إنّ العلم بمخبره مكتسب.
اعتقد أصحاب الضرب الأوّل أنّ وقوع العلم ضروري له، فإذا وجد نفسه عليه علم أنّ صفة المخبرين له صفة المتواترين، فهؤلاء عندهم أنّ حصول العلم بصفة المخبرين.
ويعتقد أصحاب الضرب الثاني: إنّ الطريق إلى العلم بصفة المخبرين هو العادة؛ لأنّ العادة قد فرقت بين:
الأوّل: الجماعة الّتي يجوز عليها أن يتّفق منها الكذب من غير تواطئ وما قام مقامه.
الثاني: من لا يجوز ذلك عليه.
الثالث: من إذا وقع منه التواطئ جاز أن ينكتم.
الرابع: من لا يجوّز انكتام التواطئ .
وعلى هذا فإذا علم أنّ وجود كون الخبر كذبا لا يصحّ على هذه الجماعات، فليس بعد ارتفاع كونه كذبا إلاّ أنّه صدق.
11 . أحد الصفات والشرائط في التواتر أنّه ليس من شرط الخبر المتواتر أن يكون رواته متباعدي الديار؛ لأنّ التواطئ قد يحصل بأهل بلد واحد.
12 . أمّا بالنسبة إلى المتحمّل للخبر، والمتحمّل عنه، وكيفية ألفاظ الرواية عنه:
فالمتحمّل للخبر على قسمين:
أ ـ القسم الذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة يراعي في العمل بالخبر صفة المخبر في عدالته وأمانته.
ب ـ القسم الذاهب إلى عدم وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ، يقول: إنّ العمل في مخبر الأخبار تابع للعلم بصدق الراوي، فالشرط الوحيد عنده هو كون
الراوي صادقا، ولا فرق عنده بين أن يكون الراوي مؤمنا أو كافرا أو فاسقا أو عادلاً.
وأمّا راوي الحديث؛ فإنّه لا يجوز أن يروي إلاّ ما سمعه عمّن حدّث عنه أو قرأه عليه فأقر له به، ولكن إذا سمع الحديث من لفظه فهو غاية التحمّل.
وأمّا ألفاظ الرواية ، فهي على أقسام ثلاثة:
ـ المناولة، وهي أن يشافه المحدّث غيره بالسماع.
ـ المكاتبة، وهي أن يكتب إليه ذلك.
ـ الإجازة، وهي لا حكم لها؛ لأنّ ما للمتحمّل أن يرويه له ذلك، أجازه له أو لم يجزه، وما ليس له أن يرويه محرم عليه مع الإجازة وفقدها.
13 . يعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ معظم إشكالات عدم حجّية الأخبار المنقولة إلى مسالك أهل الحديث؛ لأنّهم خرجوا عن الاُصول العقلية الصحيحة، فإنّهم قد يحتجّون في اُصول الدّين من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة بأخبار الآحاد، بل ربّما ذهب بعضهم إلى الجبر وإلى التشبيه اغترارا بأخبار الآحاد المروية.
14 . إنّ اخبار الآحاد لا توجب علما ولا تقتضي قطعا، وأنّها لا توجب عملاً كما لا توجب علما، وإنّما تقتضي الأحكام بما يقتضي العلم، وقد تثبت أنّها لا توجب عملاً في الشريعة، ولا يرجع بمثلها عمّا علم وقطع عليه ، وأنّها لا توجب علما ولا يقينا، وأكثر ما توجبه ـ مع السلامة التامّة ـ الظن ، ولا يجوز الرجوع عن الأدلّة ممّا يوجب العلم واليقين، وأنّها لا توجب الظن ، ولا تنتهي إلى العلم ، وما شابهها من التعابير الّتي هي صريحة في نفي صفة العلميّة والعمليّة عن أخبار الآحاد، بل صرح أنّها لا يعمل عليها في الشريعة.
15 . يقرن بين القياس وخبر الآحاد بأنّهما لا يمكن أن يكونا طريقا إلى العلم بشيء من الأحكام البتة مع فقد دليل التعبّد بهما .
16 . إنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبّد بأحكامها من طريق العقول . نعم ، يعترف بأنّ المذهب الصحيح هو: تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول، ولكن ذلك ما ورد ولا تعبّدنا به، فهو لا يعمل بها ؛ لأنّ التعبّد بها مفقود وإن كان جائزا ، وعلى هذا الأساس لا يتأوّل خبرا لا يقطع به ولا يعلم صحّته . نعم ، يمكن على سبيل التسهيل ذكر تأويلاً للخبر وإن لم يكن ذلك واجبا ، ويمكن إرجاعه إلى التسامح في أدلّة السنن .