67
المناهج الروائية عند الشریف المرتضی

تمهيـد

من أخصب حقول التفسير هو التفسير الروائي ؛ لأ نّه أصل التفسير القرآني ، وعليه فُسر القرآن الكريم ، فإنّ السنّة الصادرة من النّبي وآله عليهم السلام هي المفسّر الكبير لكتاب اللّه تعالى.
وفي هذا المجال نتطرّق إلى المنهج الروائي في التفسير عند الشريف المرتضى قدس سره، ۱ ورغم الأهمية الكبرى الّتي أولاها الشريف المرتضى قدس سره للنقل والأثر في تفسيره إلاّ أنّه لم يكن ممّن يقبل الرواية والحديث دون تمحيص وتدقيق ومحاكمة وترجيح ؛ لأنّه كان يرى اُولئك الّذين قال عنهم لم يتلق سائر ما روي عنهم بالقبول ، ولم يجز لنفسه الانسياق مع سائر مروياتهم إلاّ بعد الاطمئنان لصحّة ما يروون ، ومن هنا نجده يضعّف بعض آراء هؤلاء ويرد أقوالهم ، أو يرجّح غيرهم عليهم .
وإذا كان موقف الشريف المرتضى قدس سره من أقوال الطبقة الاُولى على هذا النحو من
الدقّة في التحري والتمحيص والغربلة ، فإنّ موقفه من أقوال المفسّرين المعاصرين له لا يقل شأنا عن موقفه ممّن سبقهم ؛ لأنّه كان يتهمهم بالانحياز لمذاهبهم ، وهو أمر في غاية الخطورة ؛ إذ لم يكن طلب الحقيقة هو المقصود في تفاسيرهم ؛ ولذلك نجده يقف من تفاسيرهم موقف المتأمّل. فيأخذ منها ما يأخذ بعد رؤية وتمعن ، ويرفض منها ما يستحقّ الرفض ، ويناقش ماينبغي مناقشته من أقوالهم وآرائهم ، كما فعل مع الطبري والبلخي وغيرهما .
ومن متابعة موقف الشريف المرتضى قدس سره من الاعتماد على المأثور يتّضح لنا أنّ للتفسير بالمأثور عنده حدودا ثابتة قائمة على تدقيق الروايات وتمحيصها ، وقبول الأثر الصحيح منها ، دون الشعور بضرورة السير وراء النقول والمرويات في كلّ الفروض ، وبهذا يكون قدس سرهقد أرسى قواعد أساسية في قبول الرواية لمَن جاء بعده من المفسّرين ، وأسهم إلى حدٍّ كبير في عملية تطوير المنهج التفسيري المعتمد أساسا على النقل والأثر.
ومن أهمّ كتب الشريف المرتضى قدس سره في هذا المجال هو كتاب الأمالي ، الّذي حاز القسم الأكبر من التفسير الروائي وخصوصا الجزء الأوّل منه . وهو من الكتب المهمّة في حقل الأدب والتاريخ والتفسير والرواية ، يقول الاُستاذ محمّد أبو الفضل إبراهيم في مقدّمته على كتاب الأمالي:
وحيثما يستعرض الباحث كتب العربية النفيسة الّتي حوت ألوان المعارف، وزخرت بأشتات الطرائف، وحفظت بين دفتيها نتاج القرائح، وحقائق السير والتاريخ والأخبار، ونصوص الشعر واللغة والغريب ، فإنّه بلا مراء يعد منها كتاب أمالي المرتضى ـ أو كما يسميه مؤلّفه غرر الفوائد ودرر القلائد ـ وينظمه في العقد الّذي يضمّ كتاب الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد لابن عبد ربّه، والأغاني لأبي الفرج ، وغيرها من الكتب الّتي حلّقت في
سماء الآداب العربية كالنجوم، وأرست قواعدها كالأطواد، وعمّرت بها مجالس العلماء ، وسوامر الاُدباء ، وتدارسها المتأدّبون جيلاً بعد جيل ، وتداولها النسّاخ، وعُدّت في مكتبات الدارسين من أكرم الذخائر وأنفس الأعلاق.
وهي مجالس مختلفة، أملاها في أزمان متعاقبة ، تنقل فيها من موضوع إلى موضوع، ومن غرض إلى آخر ، اختار بعض آي القرآن الكريم ، ممّا يغمّ تأويله على الخاصّة بل العامّة ، ويدور حولها السؤال، ويُثار الاستشكال، وعالج تأويلها وتوجيهها على طريقة أصحابه من المعتزلة ۲ ، أو أصحاب العدل كما كان يسميهم ، وحاول جهده أن يوفِّق بين تأويل الآيات المتشابهة، وما دار على ألسنة العرب من نصوص الشعر واللغة ، وفي هذا أبدى تفوّقا عجيبا ، وأبان عن ذهن وقّادٍ ، وذكاء متلهبٍ ، وبَصَر نافذٍ ، وأعانه فيما فسّر وأوّلَ ووجّه وفرة محفوظه من الشعر واللغة ومأثور الكلام . وكان الطابع الّذي يغلب عليه عرض الوجوه المختلفة ، والآراء المحتملة، مجوّزا في ذلك إمكان الأخذ بالآراء جميعا .
وترجع قيمة ما عرض له الشريف في هذا المجالس من تأويل الآيات إلى أنّها تعدّ صورة لتفسير القرآن الكريم عند علماء المعتزلة ، ممّا لم يصل إلينا من كتبهم إلاّ القليل النادر.
واختار أيضا طائفة من الأحاديث الّتي يختلف العلماء في تأويلها ، ويبدو التعارض فيما بينها ، وحاول تفسيرها وتأويلها ، بالمنهج الّذي عالج به تأويل آي القرآن ، مستعينا بشواهد الشعر واللغة ، موضّحا مذهب أصحابه من أهل العدل؛ مُدليا بحجّتهم على من خالف تأويلهم من جماعة أهل السنّة، أو أهل الجبر كما كان يسميهم ، وناقش ابن قتيبة وأبا عبيد القاسم بن سلام وابن الأنباري في ذلك على الخصوص.
ثمّ عرض لمسائل في علم الكلام ممّا اشتجر فيها الرأي، ودار حولها الجدل ، واصطرعت الأقلام ، واُقيمت المناظرات ، مثل القول برؤية اللّه ، وخلق أفعال العباد ، وإرادة اللّه للقبائح، والقول بوجوب الأصلح، وقرر رأي أصحابه ، وحاجّ عنهم ، واحتجّ على خصومهم ، وكان فيما جادل وناقش رفيقا في الجدل ، عفيفا في المقال.
وأودع في الكتاب بجانب ما بسّط من تأويل الآيات والأحاديث وعرض المسائل مختارات من المصطفى المنخول من الشعر وحرّ الكلام ، تناولها بالشرح والنقد والموازنة، وذكر صدرا من تراجم الشعراء والعلماء والاُدباء وأصحاب الأهواء والآراء الخاصّة ، وأورد طائفة من أشعارهم وأقوالهم ونوادرهم، ثم استروح بذكر فيض من الطرائف النادرة، والأجوبة الحاضرة المسكتة، والأفاكيه الرفيعة ، معتمدا فيما أورده على ما وصل إليه من كتب الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وأبي حاتم والآمدي وغيرهم، أو ما رواه عن شيوخه، وأبي عبيداللّه المرزبانيّ على الخصوص.
واختار أيضا بعض الموضوعات الّتي كانت مقاصد شعراء العربية في الجاهلية وصدر الإسلام ، كالمدائح والأهاجي والمراثي والسير ووصف الشيب والطيف وغيرها، وأورد ما قاله الشعراء فيها ، ووازن بين الكثير منها، وتناولها بالنقد في كثير من الأحيان.
وبهذه الفنون المتنوّعة ، والفصول المختلفة ، والمباحث الجليلة اجتمع للكتاب ميزة كبرى بين الكتب العربية ، وعدّ مصدرا ينقل عنه العلماء، ويحتجّ به الاُدباء ، ويرد شرعته القارئون على ممرّ الأجيال.
ويبدو أنّ هذه المجالس أملاها الشريف في داره على تلاميذه ومريديه ، في أزمنة مختلفة متعاقبة . ۳

1.قمت أنا وأخي الاُستاذ الفاضل خزعل غازي ـ حفظه اللّه ـ بعمل إحصائي شامل وكامل للآيات الكريمة في كتب الشريف المرتضى قدس سره البالغ عدّة مجلّدات ومن خلاله وجدنا الأثر الخصب للرواية في تفسيره للقرآن الكريم. وقد تضمّن تفسيره عددا كبيرا من الأحاديث والأخبار الّتي رويت عن النبيّ والأئمّة عليهم السلام ، وقد اعتمدها قدس سرهعند تفسيره للآيات القرآنية ، وأعطاها اهتماما خاصّا ، ولا سيّما أنّ تلك الأخبار قد جاءت بصدد توضيح آيات الكتاب العزيز ، وتفسير معانيه ، وبيان مقاصده ومراميه.

2.في هذه العجالة لا نريد ردّ هذا الاُستاذ في هكذا مزاعم ونأمل أن نطرح ذلك في مقدّمة التفسير إن شاء اللّه تعالى .

3.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۱ ص ۱۸ ـ ۲۰ من المقدّمة .


المناهج الروائية عند الشریف المرتضی
66
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند الشریف المرتضی
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 37691
صفحه از 358
پرینت  ارسال به