81
المناهج الروائية عند الشریف المرتضی

المنهج العقلي وظواهر الكتاب والسنّة

يعتبر العقل الركيزة الأساسية والمهمّة في المنظومة المعرفية عند الشريف المرتضى قدس سره ، بل جعله الحاكم الرئيسي في رفع التنازع بين الأدلّة بجميع أطرافها (قرآناً وسنة ) ؛ لأنّه يعتقد أنّ هذه الموهبة الإلهية إذا هذبت يمكن جعلها الدعامة
الرئيسة في واقع التشريع الإلهي.
ويلتفت الشريف المرتضى قدس سره إلى أنّ المأخوذ في أدلّة العقول هو الصراحة الواضحة ، الّتي لا مناص من العدول ، فإذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار ، بل يتجاوز المرحلة الاحتمال والمجاز إلى مرحلة أدق ، وهي وجوه التأويلات الّتي يمكن استكشافها من أدلّة العقول.
فليست أدلّة العقول لوحدها تتجاوب مع حاجات الواقع ، بل لها قيود وشروط من عدم الاحتمال، فاذا ارتضينا ذلك سوف نحصل على مفهوم ومناط كلي يتعاطف معنا على كلّ الأدلّة ، ويكون دليلاً وحاكماً تخضع له جميع المدارك الشرعية ، وسوف نصرف كلّ ما ورد ما ظاهره بخلاف الحقّ من كتاب وسنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها.
يقول الشريف المرتضى قدس سره: ـ نقلاً عن لسان بعض ـ : «أو ليس من مذهبكم أنّ الأخبار الّتي يخالف ظاهرها الاُصول، ولاتطابق العقول لايجب ردّها، والقطع على كذب رواتها إلاّ بعد ألاّ يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل؟ وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسف». ۱
وأوضح جَلاءً من هذا المتن ما قاله قدس سره: «إذا ثبت بأدلّة العقول الّتي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام صرفنا كلّ ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها، كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفاً لما تدلّ عليه العقول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه أو لايجوز». ۲
فعلى هذا الميزان الموحّد ( وهو العرض على الواضح من أدلّة العقول) سوف
تكون الانطلاقة واضحة . وكذلك ما جاء في قوله تعالى : «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا . . .»۳ .
فقد قال : هل يسوغ ما تأوّل بعضهم هذه الآية عليه من أنّ يوسف عليه السلام عزم على المعصية وأرادها، وأنّه جلس مجلس الرجل من المرأة . ثمّ انصرف عن ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوب عليه السلام عاضاً على إصبعه، متوعّداً له على مواقعة المعصية، أو بأن نؤدي له بالنهي والزجر في الحال على ما ورد به الحديث؟
وينقل الشريف المرتضى قدس سره النصّ الثاني المتقدّم الّذي نقلناه قبل قليل ليبني عليه الجواب ، ثمّ يقول : «ولهذه الآية وجوه من التأويل؛ كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبيّ اللّه تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية». ۴
وبعد أن ينقل الشريف المرتضى قدس سره عدّة أجوبة في تفسير الآية ، يقول : « وإنّما أنكرنا ما ادّعاه جهلة المفسّرين ومخرّفو القصّاص ، وقرفوا به نبي اللّه عليه السلام ، لما في العقول من الأدلّة على أنّ مثل ذلك لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام ؛ من حيث كان منفّراً عنهم، وقادحاً في الغرض المجرى إليه بإرسالهم ، والقصَّة تشهد بذلك ؛ لأنّه تعالى قال: «كَذَ لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشَآءَ» ؛ ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا، ثمّ الأخذ فيه، والشروع في مقدّماته ، وقوله تعالى أيضا: «إِنَّهُو مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» يقتضي تنزيهه عن الهمّ بالزنا ، والعزم عليه. وحكايته عن النسوة قولهنّ: «حَـشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ» ،۵ تدلّ أيضا على براءته من القبيح .
فأمّا البرهان الّذي رآه فيحتمل أن يكون لطفاً لطف اللّه له به في تلك الحال أو قبلها، اختار عنده الانصراف عن المعاصي ، والتنزه عنها.
ويحتمل أيضا ما ذكره أبو علي، وهو أن يكون البرهان دلالة اللّه تعالى له على تحريم ذلك عليه، وعلى أنّ من فعله يستحقّ العقاب . وليس يجوز أن يكون البرهان ما ظنّه الجهّال من رؤية صورة أبيه يعقوب عليه السلام متوعّداً له ، أو النداء له بالزجر والتخويف ؛ لأنّ ذلك ينافي المحنة، وينقض الغرض بالتكليف، ويقتضي ألاّ يستحقّ على امتناعه وانزجاره مدحاً ولا ثواباً ، وهذا سوء ثناء على الأنبياء، وإقدام على قرفهم بما لم يكن منهم » . ۶
وهكذا نرى الشريف المرتضى قدس سره يبرز مقدرته العقلية في الحديث الّذي روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن، يصرفهما كيف شاء».
فبعد أن ينقل النصّ الأوّل الّذي نقلناه سلفاً ويذكر عدّة تأويلات لتخريج الخبر ، يقول:
ويمكن أن يكون في الخبر وجه ، آخر على تسليم ما يقترحه المخالفون، من أنّ الإصبعين هما المخلوقتان من اللّحم والدم ، استظهاراً في الحجّة ، وإقامةً لها على كلّ وجه ، وهو أنّه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الإصبعين ، يحرّكه اللّه تعالى بهما ، ويقلّبه بالفعل فيهما ، ويكون وجه تسميتهما بالأصابع من حيث كانا على شكلهما .
والوجه في إضافتهما إلى اللّه تعالى ـ وإن كانت جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة ـ أنّه لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عمّا جاورهما غيره تعالى ، فقيل إنّهما إصبعان له ، من حيث اختصّ بالفعل فيهما على هذا الوجه ؛ لأنّ غيره إنّما يقدر على تحريك القلب، وما هو مجاور للقلب من الأعضاء بتحريك جملة الجسم، ولا يقدر على تحريكه وتصريفه منفرداً ممّا يجاوره غيره تعالى ، فمن
أين للمبطلين المتأوّلين هذه الأخبار بأهوائهم وضعف آرائهم أنّ الأصابع هاهنا إذا كانت لحماً ودماً فهي جوارح للّه تعالى ؟ !
وما هذا الوجه الّذي ذكرناه ببعيد ، وعلى المتأوّل أن يورد كلّ ما يحتمله الكلام ممّا لا تدفعه حجّة ، وإن ترتّب بعضه على بعض في القوّة والوضوح. ۷

1.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج ۱ ص ۳۱۸ .

2.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۱ ص ۴۷۷ .

3.يوسف : ۲۴ .

4.أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۱ ص ۴۷۷ .

5.يوسف : ۵۱ .

6.أمالي المرتضى (غرر الفوائد و درر القلائد) : ج ۱ ص ۴۸۱ ـ ۴۸۲ .

7.المصدر السابق : ج ۱ ص ۳۲۱ .


المناهج الروائية عند الشریف المرتضی
80
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند الشریف المرتضی
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 30630
صفحه از 358
پرینت  ارسال به