وَأَطَعْتُمْ ، وَلكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا ، وَقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الْحِجَابُ!
وَلَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ ، وَأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ ، وَهُدِيتُمْ إِنْ اهْتَدَيْتُمْ ، وَبِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ : لَقَدْ جَاهَرَتْكُمُ الْعِبَرُ . وَزُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ . وَمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللّهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّمَاءِ إِلاَّ الْبَشَرُ ۱ .
الشّرْحُ :
الوهَل : الخوف ، وهِلَ الرجل يَوْهَل . و « ما » في قوله : « ما يُطْرَح » مصدرية ؛ تقديره : « وقريب طَرْح الحجاب » ، يعني رفعَه بالموت .
وهذا الكلامُ يدلّ على صِحّة القول بعذاب القبر ، وأصحابنا كلُّهم يذهبون إليه ، وإن شنّع عليهم أعداؤهم من الأشعرية وغيرهم بجحْده .
ويمكن أن يقول قائل : هذا الكلام لا يدلّ على صحّة القول بعذاب القبر ؛ لجواز أن يعنِي بمعاينة من قد مات ، ما يشاهده المحتضَر من الحالة الدالّة على السعادة أو الشقاوة ، فقد جاء في الخبر : « لا يموت امرُؤ حتى يعلَم مصيره ؛ هل هو إلى جنّة أم إلى النار » . ويمكن أن يعنى به ما يعاينه المحتضَر من ملك الموت وهَوْل قدومه . ويمكن أن يعنى به ما كان عليه السلام يقول عن نفسه : إنه لا يموت ميّت حتى يشاهدَه عليه السلام حاضرا عنده . والشيعة تذهب إلى هذا القول وتعتقدُه ، وتروي عنه عليه السلام شعرا قاله للحارث الأعور الهمدانيّ ۲ :
يا حارِ هَمْدَانَ مَنْ يَمُتْ يَرَنِيمن مؤمنٍ أو منافقٍ قُبُلا
يَعْرفنِي طرفُه وأعرِفُهبِعَيْنِه واسمِه وَمَا فَعَلا
أقول لِلنّار وهي توقد للـعَرْضِ ذَرِيهِ لاَ تَقْرَبِي الرَّجُلا
ذَرِيهِ لا تقربِيهِ إنَّ لَهُحَبْلاً بحَبْلِ الوصيّ مُتَّصِلا
وَأَنْتَ يا حار إن تمتْ ترنيفلا تَخْفْ عَثرةً ولا زللا
أسْقيكَ مِنْ باردٍ على ظمأٍتخاله في الحلاوةِ العَسَلا
وليس هذا بمنكَر إن صحّ أنّه عليه السلام قاله عن نفسه ، ففي الكتابِ العزيزِ ما يدلّ على أنّ أهل الكتاب لا يموت منهم ميّت حتى يصدِّق بعيسى بن مريم عليه السلام ؛ وذلك قوله : « وَإن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا »۳ ، قال كثيرٌ من المفسرين : معنى ذلك أنّ كلَّ ميت من اليهود وغيرهم من أهل الكتب السالفة إذا احتُضِر رأى المسيح عيسى عنده ، فيصدّق به مَنْ لم يكن في أوقات التكليف مصدِّقا به .
1.عاين : رآه بعينه . الجزع : عدم الصبر على المصيبة . جاهرتكم : من الجهر وهو الارتفاع وكلام جهير أي عالٍ . العبر : جمع عبرة ، وهي الموعظة ، والمراد هنا الاعتبار . مزدجر : ما فيه ردع ومنع عن التقحّم في المعاصي والآثام .
2.الأبيات تنسب للسيد الحميري وليست للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ومطلعها :
وقول عليٍّ لحارث عجبٌكم ثمَّ اُعجوبة حملا يا حارٍ همدْان من يمت يرني... إلى آخر الأبيات
ذكر ذلك أبو علي الطوسي في ( أماليه : ص۴۲ ) ، وانظر أيضاً : الغدير للعلاّمة الأميني ۱۱:۲۶۰ . مؤسسة الأعلمي ۱۴۱۴ ه .
3.سورة النساء ۱۵۹ .