البيان ، وصار له ذوقٌ في هذا الباب ، لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقَف على كرّاسٍ واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلابدّ أن يفرّق بين الكلامين ، ويميّز بين الطريقتين ... .
وأنت إذا تأملت (نهج البلاغة) وجدته كلَّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، واُسلوباً واحداً ، كالجسم البَسيط ، الذي ليس بعضٌ من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة ، وكالقرآن العزيز ، أوّله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكلّ سورة منه ، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ؛ ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً وبعضه صحيحاً ، لم يكن ذلك كذلك ؛ فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلالُ مَنْ زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضَه منحولٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام .
واعلم أنّ قائل هذا القول يطرُق على نفسه ما لا قِبَل له به ؛ لأنّا متى فَتَحْنا هذا الباب ، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو ، لم نثِقْ بصحّة كلام منقول عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمأبداً ، وساغ لطاعنٍ أن يطعن ويقول : هذا الخبر منحول ؛ وهذا الكلام مصنوع ، وكذلك ما نُقِل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخُطب والمواعظ والأدب وغير ذلك ، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، والأئمة الراشدين ، والصحابة والتابعين ، والشعراء والمترسّلين ، والخطباء ، فلناصِرِي أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره ، وهذا واضح ۱ .
وأمّا نسبة بعض خطب النهج لغير الإمام عليه السلام ، فقد كان من اختلاق المؤرخين وفعلهم عن خطأ أو عمدٍ ، كالخطبة التي نُسبت إلى معاوية ، الذي ألقاها في جماعة من قريش قبيل وفاته : « أيها الناس ، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمَنٍ كنود ، يُعدّ فيه المحسن مسيئاً ، ويزداد الظالم فيه عتواً ... الخ » ۲ .
فقد شكّك الجاحظ في هذه النسبة ـ بعد أن ذكر هذه الخطبة ، وذكر من نَسَبَها إلى معاوية ـ لأسباب أهمها : « أن هذا الكلام بكلام عليّ عليه السلام أشبه ... ثم قال : ومتى وجدنا