23
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

البيان ، وصار له ذوقٌ في هذا الباب ، لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقَف على كرّاسٍ واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلابدّ أن يفرّق بين الكلامين ، ويميّز بين الطريقتين ... .
وأنت إذا تأملت (نهج البلاغة) وجدته كلَّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، واُسلوباً واحداً ، كالجسم البَسيط ، الذي ليس بعضٌ من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة ، وكالقرآن العزيز ، أوّله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكلّ سورة منه ، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ؛ ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً وبعضه صحيحاً ، لم يكن ذلك كذلك ؛ فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلالُ مَنْ زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضَه منحولٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام .
واعلم أنّ قائل هذا القول يطرُق على نفسه ما لا قِبَل له به ؛ لأنّا متى فَتَحْنا هذا الباب ، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو ، لم نثِقْ بصحّة كلام منقول عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمأبداً ، وساغ لطاعنٍ أن يطعن ويقول : هذا الخبر منحول ؛ وهذا الكلام مصنوع ، وكذلك ما نُقِل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخُطب والمواعظ والأدب وغير ذلك ، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، والأئمة الراشدين ، والصحابة والتابعين ، والشعراء والمترسّلين ، والخطباء ، فلناصِرِي أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره ، وهذا واضح ۱ .
وأمّا نسبة بعض خطب النهج لغير الإمام عليه السلام ، فقد كان من اختلاق المؤرخين وفعلهم عن خطأ أو عمدٍ ، كالخطبة التي نُسبت إلى معاوية ، الذي ألقاها في جماعة من قريش قبيل وفاته : « أيها الناس ، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمَنٍ كنود ، يُعدّ فيه المحسن مسيئاً ، ويزداد الظالم فيه عتواً ... الخ » ۲ .
فقد شكّك الجاحظ في هذه النسبة ـ بعد أن ذكر هذه الخطبة ، وذكر من نَسَبَها إلى معاوية ـ لأسباب أهمها : « أن هذا الكلام بكلام عليّ عليه السلام أشبه ... ثم قال : ومتى وجدنا

1.شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ۱۰/۱۲۸ـ ۱۲۹ .

2.نهج البلاغة ، ص۴۷ الخطبة ۳۲ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
22

بعض هذه المجموعات مع الزمن ، وتلفت ضمن ما تلف من تراثنا العربي والإسلامي ، بسبب الحروب والفتن ، وبقيت أسماؤها فقط ، يعرفها كلّ من عنى بالتراث الإسلامي ، ومن هذه المجموعات :
1 ـ كتاب (خطب أمير المؤمنين عليه السلام على الناس في الجمع والأعياد) ، لزيد بن وهب الجهني الكوفي (96 ه) .
2 ـ كتاب خطب أمير المؤمنين عليه السلام ، المروية عن إمامنا الصادق عليه السلام (148 ه) .
3 ـ كتاب (خطب الإمام عليّ) ، لهشام بن السائب الكلبي (206 ه) .
4 ـ كتاب (خطب عليّ عليه السلام وكتبه إلى عماله) ، لأبي الحسن علي بن محمد المدائني (225 ه) .
5 ـ كتاب (رسائل أمير المؤمنين عليه السلام ) ، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي (283 ه) وعشرات من نظائرها .
وبعد هذا ... فهل يمكن أن يُنسب جميع النهج أو بعضه إلى الشريف الرضي ، أو إلى غيره ؟
والواقع أنّ اتهام السيد الرضي بوضع (نهج البلاغة) قديم كما قلنا ، كما أنّ الدفاع عنه قديم أيضاً . ونكتفي في هذا المجال بذكر دفاع شارح النهج ، عز الدين أبي حامد بن أبي الحديد المعتزلي الشافعي ، عن نسبة نهج البلاغة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، حيث يقول : « إنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون : إنّ كثيراً من (نهج البلاغة) كلام مُحدَث ، صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عَزَوْا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم ، فضلّوا عن النهج الواضح ، وركبوا بُنيّات الطريق ، ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضّح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ (نهج البلاغة) مصنوعاً منحولاً ، أو بعضه .
والأوّل باطل بالضرورة ؛ لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدّثون كلُّهم أو جلّهم ، والمؤرّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة لينسَبُوا إلى غرض في ذلك .
والثاني يدلّ على ما قلناه ؛ لأنّ مَنْ قد أنِسَ بالكلام والخَطَابة ، وشَدَا طرَفاً من علم

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183582
صفحه از 712
پرینت  ارسال به