27
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

خامساً ـ وأما الإطالة في الكتب ، وبخاصة عهد مالك ، فهي ضرورة اقتضتها ظروف الحركة التغييرية التي تبناها الإمام عليه السلام ، بعد بروز ظاهرة الفساد الإداري واستهتار الولاة ، فأراد الإمام عليه السلام أن يعهد عهداً ، يكون منهاجاً يسير عليه الولاة عموماً ، ويُقرأ على الأُمة ليكون شاهداً ورقيباً على تصرفاتهم ، وحتى مالك الأشتر ؛ في حنكته وحزمه وتقواه ، يحتاج إلى نصح الإمام عليه السلام وتوجيهه ، ثم إنّ هذا العهد الذي يرسم علاقة الحاكم مع القضاة ، والقواد والتجار ، والعمال ، والجند ، والرعية ... لا يسعه إلاّ الإطالة والإسهاب النافع ، والبيان الشافي ، كما هو الحال في زماننا حينما يُكتب دستور للأُمّة أو تُعيّن فيه وظائف الحاكم أو المحكومين .
سادساً ـ وأما إخباره بالمغيبات ، كإخباره عن قيام دولة بني اُميّة وسقوطها ، ومصير الخوارج ، ومصرع ذي الثدية ، وحركة الزنج ، وحروب التتار وفظائعهم ، وغير ذلك مما أجمع المؤرخون على تحققها وتواتر نقلها . فلا يكفي مجرد التشكيك فيها أو تهويلها لرفع اليد عنها ، اللهم إلاّ أن يقال باستحالة الإخبار بالمغيبات في حق الإمام عليه السلام . على أنّه عليه السلام لا يدّعي ذلك لنفسه ، كما صرّح بذلك للرجل الكلبي الذي بادره قائلاً : لقد اُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ، فأجابه الإمام عليه السلام : « ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلّم من ذي علم » .
ولا يَستغرب ذلك من الإمام صلى الله عليه و آله وسلم او يَستكثر عليه إلاّ من لا يعرف منزلة الإمام ومقامه ، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم قد اختصّه بعلمه وسرّه وعنايته ، كما أخبره صلى الله عليه و آله وسلم بالمغيّبات على نحو الإجمال ، ثم هداه إلى أفضل الطرق التي يعي بسببها تفصيل ما أجمله صلى الله عليه و آله وسلم له . كإخباره بما سيقع من حوادث ووقائع تجري من بعده ، كقتال الناكثين والقاسطين والمارقين .
ثم ، من قال إنّه لا يجوز له عليه السلام أن يخبر عن حوادث تقع في مستقبل الزمان ، أخذ علمها عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم عن اللّه تعالى ؟!
وما هو المانع من أن يُطلع اللّه على غيبه من ارتضى من الرسل ، كما جاء في قوله تعالى : «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ»۱ ، وأن يأمر بإعلانه للناس لمصلحة ما ؟!

1.سورة الجن ۲۶ و ۲۷ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
26

فقال : أنَّى للرضيّ ولغير الرضي هذا النَّفَس وهذا الأُسلوب ! قد وقفنا على رسائل الرضي ، وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور ، وما يقع من هذا الكلام في خَلِّ ولا خَمْر . ثم قال : واللّه لقد وقفتُ على هذه الخطبة في كتب صُنِّفت قبل أن يخلق الرضي بمئتي سنة ، ولقد وجدتُها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط مَنْ هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيبُ أبو أحمد والد الرضيّ .
قلت : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ۱ إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمدة طويلة . ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر ابن قِبَة ۲ أحد متكلّمي الإمامية ، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف) ، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضيّ رحمه الله موجوداً » ۳ .
رابعاً ـ أمّا قضية كثرة الخطب ، فإنها كانت قياساً إلى كثرة الدواعي والأغراض ، وتراكم الأحداث والظروف السياسية ، والعسكرية ، والاجتماعية ، والأخلاقية ، قليلة ؛ لأنّ كلّ هذه الأُمور تحتاج إلى كلام كثير هو أضعاف ما ورد في النهج من الخطب . وقد ذكرنا روايتي المسعودي واليعقوبي وغيرهما ، بأنّ المروي أكثر من ذلك المدوّن في النهج بكثير ۴ .

1.أبو القاسم البلخي عبد اللّه بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي ، كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم (الكعبية) ، من آرائه : أنّ اللّه سبحانه وتعالى ليست له إرادة وأن جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها . (توفي ۳۱۹ ه) ، وفي الأعيان وفاته (۳۱۷ ه) ، ذكره النديم في الفهرست ، ص۳۵۷ تحقيق رضا تجدّد ـ طهران ۱۳۹۱ ه ، وقال : « كان من أهل بلخ ، يطوف البلاد ويجول الأرض ؛ حسن المعرفة بالفلسفة والعلوم القديمة ... ورأيت بخطّه شيئاً كثيراً في علوم كثيرة مسودات ودساتير لم يخرج منها إلى الناس كتاب تام » . وراجع وفيات الأعيان ، ابن خلكان ۳/۴۵ رقم ۳۳۰ مصدر سابق ؛ الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية ، عبد القادر بن محمد الحنفي ۲/۲۹۶ رقم ۶۹۳ تحقيق د . عبد الفتاح محمد الحلو ، مكتبة الإيمان ، اُفست عن طبعة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ۱۳۹۸ ه ـ القاهرة .

2.هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قِبَة الرازي ؛ من متكلّمي الشيعة وحذاقهم ، وله من الكتب ، كتاب الإنصاف في الإمامة . توفي بعد سنة (۳۲۸ ه) ؛ الفهرست ، الطوسي ص۲۰۷ رقم ۵۹۶ مصدر سابق ؛ فهرست النديم ، ص۲۲۵ ، الفن الثاني من المقالة الخامسة ، مصدر سابق .

3.شرح نهج البلاغة ۱/۲۰۵ .

4.مروج الذهب ، المسعودي ۲/۴۱۷ ، مصدر سابق ؛ ومشاكلة الناس لزمانهم ، اليعقوبي ، ص۱۵ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183516
صفحه از 712
پرینت  ارسال به