271
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

انتخبه اللّه ، وجعله أهلاً للوصول إليه ، فشرب منه ونَهَل ، وسلك طريقا لا عَثار فيه ولا وَعْث .
وعاشرها : أن يخلَعَ سرابيلَ الشهوات ؛ لأنّ الشهوات تصدِئ مرآة العقل ، فلا تنطبع المعقولات فيها كما ينبغي ، وكذلك الغَضب .
وحادي عشرها : أن يتخلّى من الهموم كلّها ؛ لأنها تزيّدات وقواطع عن المطلوب ، إلاّ همّاً واحدا وهو همّه بمولاه ، الذي لذّته وسروره الاهتمام به ، والتفرد بمناجاته ومطالعة أنوار عِزّته ، فحينئذٍ يخرج عن صفة أهل العَمى ، ومن مشاركة أهل الهوى ؛ لأ نّه قد امتاز عنهم بهذه المرتبة والخاصيّة التي حصلت له فصار مفتاحا لباب الهدى ، ومِغْلاقاً لباب الضلال والردى ، قد أبصر طريق الهدى ، وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره .
وثاني عشرها : أن ينصِبَ نفسَه للّه في أرفع الأُمور ، وهو الخلوة به ، ومقابلة أنوار جلاله بمرآة فكره ، حتى تتكيّف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الإشراق ، فهذا أرفع الأُمور وأجلّها وأعظمها ، وقد رَمَز في هذا الفصل ، ومزجه بكلام خرج به إلى أمر آخر ، وهو فقه النفس في الدين ، والأُمور الشرعية النافعة للناس في دنياهم وأُخراهم ؛ أمّا في دنياهم فلردْع المفْسِد وكفّ الظالم ، وأما في أُخراهم فللفوز بالسعادة باعتبار امتثال الأوامر الإلهية . فقال : « في إصدار كلّ وارد عليه » ؛ أي في فُتيا كلّ مستفتٍ له ، وهداية كلّ مسترشِد له في الدين ؛ ثم قال : « وتصيير كلّ فرع إلى أصله » . ويمكن أن يحتجّ بهذا من قال بالقياس ، ويمكن أن يقال : إنه لم يُرد ذلك ، بل أراد تخريج الفروع العقلية ، وردّها إلى أُصولها ؛ كما يتكلف أصحابنا القول في بيان حكمة القديم تعالى ، في الآلام وذبح الحيوانات ، ردّا له إلى أصل العدل ، وهو كونه تعالى لا يفعل القبيح .
وثالث عشرها : أن يكون مصباحا لظلمات الضلال ، كشّافا لعشَوات الشُّبَه ، مفتاحا لمبْهَمات الشُّكوك المستغلقة ، دفَّاعاً لمعضلات الاحتجاجات العقلية الدقيقة الغامضة ، دليلاً في فلوات الأنظار الصعبة المشتبهة ، ولم يكن في أصحاب محمد صلى الله عليه و آله وسلمأحد بهذه الصفة إلاّ هو .
ورابع عشرها : أن يقول مخاطبا لغيره فيُفهمه ماخاطبه به ، وأن يسكت فيَسلم ، وذلك لأ نّه ليس كل قائل مُفهما ، ولا كل ساكت سالما .
وخامس عشرها : أن يكونَ قد أخلصَ للّه فاستخلَصه اللّه ، والإخلاص للّه مقام عظيم


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
270

علم الطريقة والحقيقة علمهم ، وهو تصريح بحال العارف ومكانته من اللّه تعالى .
واعلم أن الصفات والشروط والنعوت التي ذكرها في شرح حال العارف ، إنما يعني بها نفسَه عليه السلام ؛ وهو من الكلام الذي له ظاهر وباطن ؛ فظاهره أن يشرح حال العارف المطلق ، وباطنه أن يشرح حال عارف معيّن ، وهو نفسه عليه السلام . وسيأتي في آخر الخطبة ما يدلّ على ذلك .
ونحن نذكر الصفات التي أشار عليه السلام إليها واحدة واحدة :
فأوّلُها : أن يكون عبدا أعانه اللّه على نفسه ، ومعنى ذلك أن يخصّه بألطاف ، يختار عندها الحَسن ويتجنّب القبيح ، فكأنه أقام النفس في مقام العدوِّ ، وأقام الألطافَ مقام المعونة التي يمدّه اللّه سبحانه بها ، فيكسِر عادية العدوّ المذكور ؛ وبهذا الاعتبار سمّى قومٌ من المتكلمين اللطف عَوْنا .
وثانيها : أن يستشعر الحزن ، أي يحزن على الأيام الماضية ، إن لم يكن اكتسب فيها من موجبات الاختصاص أضعاف ما اكتسبه .
وثالثها : أن يتجلببَ الخوف ، أي يخاف من الإعراض عنه ، بأن يصدر عنه ما يمحوه من جريدة المخلِصين .
ورابعها : أن يُعِدّ القِرَى لضيف المنيّة ، وذلك بإقامة وظائف العبادة .
وخامسها : أن يقرّب على نفسه البعيد ، وذلك بأن يمثّل الموت بين عينيه صباحا ومساءً ، وألاّ يطيل الأمل .
وسادسها : أن يهوّن عليه الشدائد ؛ وذلك باحتمال كُلَف المجاهدة ورِياضة النفس على عمل المشاقّ .
وسابعها : أن يكون قد نظر فأبصر ، وذلك بترتيب المقدّمات المطابقة لمتعلّقاتها ترتيبا صحيحا ، لتنتج العلم اليقيني .
وثامنها : أن يذكر اللّه تعالى فيستكثرَ من ذكره ؛ لأنّ ذكره سبحانه والإكثار منه ، يقتضي سكونَ النفس وطُمأْنينتها ، كما قال تعالى : « أَلا بِذِكْر اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلوبُ »۱ .
وتاسعها : أن يرتوِيَ من حبّ اللّه تعالى ، وهو العذب الفُرات ، الذي سهل موارده على من

1.سورة الرعد ۲۸ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183508
صفحه از 712
پرینت  ارسال به