289
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

الدهر والزمان بجملته وتفصيل أجزائه نسبة متحدة .
ثم قال : « الرادع أناسيّ الأبصار عن أن تنالَه أو تدركه » ، الأناسيّ : جمع إنسان ؛ وهو المثال الذي يُرى في السواد ؛ إلاّ أنّ الأدلّة العقلية من جانبنا اقتضتْ تأويل هذا اللفظ ، كما تأوّل شيوخنا قوله تعالى : « وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ »۱ ؛ فقالوا : إلى جنّةِ ربها ؛ فنقول : تقديرُه الرادعُ أناسيَّ الأبصار أنْ تنال أنوارَ جلالته .
فإن قلت : أتثبتون له تعالى أنوارا يمكن أن تدركها الأبصار ، وهل هذا إلاّ قولٌ بالتجسيم!
قلت : كلاّ لا تجسيمَ في ذلك ؛ فكما أن له عرضا وكرسيّا وليست بجسم ؛ فكذلك أنوار عظيمة فوق العرش ، وليس بجسم ، فكيف تنكر الأنوار ، وقد نطق الكتاب العزيز بها في غير موضع ، كقوله : « وَأَشْرَقِتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا »۲ ، وكقوله : « مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ »۳ .

الأصْلُ :

۰.وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ ، وَضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ ، مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَالْعِقْيَانِ ، وَنُثَارَةِ الدُّرِّ وَحَصِيدِ الْمَرْجَانِ ، مَا أَثَّرَ ذلِكَ فِي جُودِهِ ، وَلاَ أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ ، وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الإنْعَامِ مَا لاَتُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الأَنَامِ ؛ لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لاَ يَغِيضُهُ سُؤالُ السَّائِلِينَ، وَلاَ يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ المُلِحِّينَ.

الشّرْحُ :

هذا الكلام من تتمة الكلام الأوّل، وهو قوله : « لا يفِرهُ المنع ، ولا يكْدِيه الإعطاء والجود » . وتنفّست عنه المعادن : استعارة ، كأنّها لما أخرجته وولدته كانت كالحيوان يتنفّس فيخرج من صدره ورئته الهواء . وضحكت عنه الأصداف ، أي تفتّحت عنه وانشقّت ، يقال للطَّلْع حين ينشقّ : الضّحك ، بفتح الضاد ، وإنما سمي الضاحك ضاحكا ؛ لأ نّه يفتح فاه . والفلِزّ :

1.سورة القيامة ۲۲ و ۲۳ .

2.سورة الزمر ۶۹ .

3.سورة النور ۳۵ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
288

مِنْهُ الحَالُ ، وَلاَ كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الاِنْتِقَالُ .

الشّرْحُ :

الأشباح : الأشخاص ، والمراد بهم هاهنا الملائكة ؛ لأنّ الخطبة تتضمّن ذِكْرَ الملائكة . وقوله : « الصلاة جامعةً » منصوب بفعل مقدر ، أي احضروا الصلاة ، وأقيموا الصلاة ، و « جامعةً » منصوب على الحال من الصلاة . وغَصَّ المسجد ، بفتح الغين ، أي امتلأ ، والمسجد غاصٌّ بأهله . ويقال : رجل مغضَب ، بفتح الضاد ، أي قد أُغضِب ، أي فعل ما يوجب غَضَبه . ويَفرُه المنع : يزيد في ماله ، والموفور التامّ ، وفرتُ الشيء وفْراً وَوَفَر الشيء نفسُهُ وفُورا ، يتعدّى ولا يتعدى . وفي أمثالهم : « يوفر ويحمد » هو من قولك وفرته عرضَه ووفرته ماله .
وقوله : « ولا يكديه الإعطاء » ، أي لا يفقِرُه ولا ينفد خزائنه ، يقال : « كَدَتِ الأرضُ » تَكِدُو فهي كادية ، إذا أبطأ نباتُها ، وقلّ خيرها ، يقول : إنّه سبحانه قادر على المقدورات ، وليس كالملوك من البشر الذين إذا أعطوْا نقصَتْ خزائهم وإن منعوا زادت ، وقد شرح ذلك وقال : « إذا كلّ معطٍ منتَقَص » أي منقوص . ثم قال : « وكلّ مانع مذموم غيره » ، وذلك لأ نّه تعالى إنما يمنع مَنْ تَقتضى الحكمةُ والمصلحةُ منعه ، وليس كما يمنع البشر .
قوله : « وليس بما سُئِل بأجود منه بما لم يُسأل » فيه معنى لطيف ، وذاك لأنّ هذا المعنى مما يختصّ بالبشر ؛ لأنهم يتحركون بالسؤال وتهزّهم الطلبات ، فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألهم إياه ، وأما البارئ سبحانه فإن جوده ليس على هذا المنهاج ؛ لأنّ جوده عامٌّ في جميع الأحوال .
ثم ذكر أنّ وجودَه تعالى ليس بزمانيّ ، فلا يطلق عليه البعدية والقبلية ، كما يطلق على الزمانيات ، وإنما لم يكن وجوده زمانيا لأ نّه لا يقبل الحركة ، والزمان من لواحق الحركة ، وإنما لم تطلق عليه البَعْدِيّة والقَبْليّة إذْ لم يكن زمانيا ، فيكون تقدير الكلام على هذا : الأوّل الذي لا يصدق عليه القبلية الزمانيّة ، ليمكن أن يكون شيء ما قبله ، والآخِر الذي لا يصدق عليه البعدية الزمانية ، ليمكن أن يكون شيء ما بعده . وقد يُحمل الكلام على وجه آخر ، [لكنّ] الوجه الأول أدق وألطف ، ويؤكّد كونه مراده قوله عقيبه : « ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال » ، وذلك لأنّ واجب الوجود أعلى من الدهر والزمان ، فنسبة ذاته إلى

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 184606
صفحه از 712
پرینت  ارسال به