ولابدّ من أخذ هذا القيد في الكلام ؛ لأنّ أرباب الأنظار لابدّ أن تخطِر لهم الخواطر في تقدير جلال عِزّته ؛ ولكن تلك الخواطر لا تكون مطابقة لها في الخارج ؛ لأنها خواطر مستندُها الوهم لا العقل الصريح ؛ وذلك لأنّ الوهم قد ألف الحِسّيات والمحسوسات ، فهو يعقل خواطر بحسب ما ألفه من ذلك ؛ وجلالُ واجبِ الوجود أعلى وأعظم من أن يتطرّق الوهمُ نحوه ؛ لأ نّه بريء من المحسوسات سبحانه ؛ وأما العقل الصريح فلا يدرِك خصوصية ذاته لما تقدّم .
واعلم أن قوله تعالى : « فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ »۱ فيه إشارة إلى هذا المعنى ، وكذلك قوله : « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ »۲ .
الأصْلُ :
۰.الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ ، وَلاَ مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ ، مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ ، وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ ، مَا دَلَّنا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ، فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ ، وَأَعْلاَمُ حِكْمَتِهِ ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلاً عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً ، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ ، وَدَلاَلَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ .
الشّرْحُ :
المِساك ، بكسر الميم : ما يمسَك ويعصَم به . وقوله : « ابتدع الخلق على غير مثال امتثله » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يريد بـ « امتثله » مثله ، كما تقول : صنعت واصطنعت بمعنى ، فيكون التقدير