293
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

ولابدّ من أخذ هذا القيد في الكلام ؛ لأنّ أرباب الأنظار لابدّ أن تخطِر لهم الخواطر في تقدير جلال عِزّته ؛ ولكن تلك الخواطر لا تكون مطابقة لها في الخارج ؛ لأنها خواطر مستندُها الوهم لا العقل الصريح ؛ وذلك لأنّ الوهم قد ألف الحِسّيات والمحسوسات ، فهو يعقل خواطر بحسب ما ألفه من ذلك ؛ وجلالُ واجبِ الوجود أعلى وأعظم من أن يتطرّق الوهمُ نحوه ؛ لأ نّه بريء من المحسوسات سبحانه ؛ وأما العقل الصريح فلا يدرِك خصوصية ذاته لما تقدّم .
واعلم أن قوله تعالى : « فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ »۱ فيه إشارة إلى هذا المعنى ، وكذلك قوله : « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ »۲ .

الأصْلُ :

۰.الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ ، وَلاَ مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ ، مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ ، وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ ، مَا دَلَّنا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ، فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ ، وَأَعْلاَمُ حِكْمَتِهِ ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلاً عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً ، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ ، وَدَلاَلَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ .

الشّرْحُ :

المِساك ، بكسر الميم : ما يمسَك ويعصَم به . وقوله : « ابتدع الخلق على غير مثال امتثله » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يريد بـ « امتثله » مثله ، كما تقول : صنعت واصطنعت بمعنى ، فيكون التقدير

1.سورة الملك ۳ ، ۴ .

2.سورة البقرة ۲۵۵ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
292

لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ ، رَدَعَهَا وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ ، مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ ـ سُبْحَانَهُ ـ فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لاَ يُنَالُ بِجَوْرِ الاِعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ ، وَلاَ تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلاَلِ عِزَّتِهِ .

الشّرْحُ :

ارتمت الأوهام ، أي ترامَت ؛ يقال : ارتمى القوم بالنَّبْل ؛ أي تراموا ، فشبّه جَوَلان الأوهام والأفكار وتعارضها بالترامي . وخَطْر الوساوس ، بتسكين الطاء ؛ مصدر خَطَر له خاطر ، أي عرض في قلبه ، وروي « من خطَرات الوساوس » . وتولّهت القلوب إليه : اشتدّ عِشقها حتى أصابها الوَله وهو الحيرة .
وقوله : « لتجري في كيفية صفاته » ، أي لتصادف مجرىً ومسلكاً في ذلك ؛ وغمضت مداخلُ العقول ، أي غَمض دخولها ، ودق في الأنظار العميقة التي لا تبلغ الصفات كنهَها لدقّتِها وغموضها طالبة أن تنال معرفته تعالى . قوله عليه السلام : « ردعها » ، أي كَفّها . وتجوب ، أي تقطع . والمهاوي : المهالك ، الواحدة مَهْوَاة بالفتح ، وهي مابين جبلين أو حائطين ونحو ذلك. والسُّدَف : جمع سُدْفة ، وهي القطعة من الليل المظلم . وجُبهت ، أي رُدّت ، وأصله مِنْ جَبْهتُه ، أي صَكَكْتُ جبهتَه . والجَوْر : العدول عن الطريق . والاعتساف : قَطْع المسافة على غير جادّة معلومة .
وخُلاصة هذا الفصل أَنّ العقول إذا حاولت أن تدرِك متى ينقطع اقتداره على المقدّرات نكصتْ عن ذلك ؛ لأ نّه قادر أبدا دائما على ما لا يتناهى ، وإذا حاول الفِكْر الذي قد صفا وخلا عن الوساوس والعوائِق أنْ يدرك مغيّبات عِلْمِه تعالى كلَّ وحَسَر ورجع ناقصا أيضا . وإذا اشتدّ عشق النفوس له ، وتولّهت نحوه لتسلك مسلكا تقِف منه على كيفية صفاته عجزت عن ذلك . وإذا تغلغلت العقول ، وغَمَضت مداخلُها في دقائق العلوم النظرية الإلهيّة التي لا توصف لدقّتها طالبة أن تعلم حقيقة ذاته تعالى ، انقطعت وأعيت ، وردّها سبحانه وتعالى وهي تجول وتقطع ظلماتِ الغيب لتخلُص إليه ، فارتدّتْ حيث جَبّهها وردعها ، مُقِرّة معتَرِفة بأن إدراكه ومعرفته لا تُنالُ باعتساف المسافات التي بينها وبينه ؛ وإن أرباب الأفكار والرويات يتعذّر عليهم أن يخطِر لهم خاطر يطابق ما في الخارج من تقدير جلال عزته ؛

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 184545
صفحه از 712
پرینت  ارسال به