295
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

نِدَّلَكَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ : « تَاللّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ» . كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ ، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ ، وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهمْ ، وَجَزَّأُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ ، وَقَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الُمخْتَلِفَةِ الْقُوَى ، بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ .
وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ ، وَالْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ ، وَانَّكَ أَنْتَ اللّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ ، فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً ، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً .

الشّرْحُ :

حقاق المفاصل جمع حقّة ؛ وجاء في جمعها حِقاق وحقق وحقّ ؛ ولما قال : « بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم حقاق مفاصلهم » ؛ فأوقع التلاحمُ في مقابلة التباين صناعة وبديعا . وروي « المحتجّة » ، فمن قال : « المحتجّة » ، أراد أنّها بما فيها من لطيف الصنعة كالمحتجة المستدلة على التدبير الحكمي من لدنه سبحانه ، ومن قال : « المحتجبة » أراد المستترة ؛ لأنَّ تركيبها الباطن خفيّ محجوب . والنِدّ : المثل . والعادلون بك : الذين جعلوا لك عَدِيلاً ونظيرا. ونحلُوك : أعطوك ؛ وهي النِّحلة ، وروي : « لم يُعْقَد » على ما لم يسمّ فاعله . وغَيْب ضمِيره ، بالرفع . والقرائح : جمع قَرِيحة ، وهي القوة التي تستنبط بها المعقولات وأصلُه من قريحة البئر ، وهو أوّل مائها .
ومعنى هذا الفصل أنه عليه السلام شَهِد بأنّ المجسم كافر ، وأ نّه لا يعرف اللّه ، وأن من شبّه اللّه بالمخلوقين ذوي الأعضاء المتباينة ، والمفاصل المتلاحمة ، لم يعرفه ولم يباشر قلبه اليقين، فإنّه لا ندّ له ولا مِثْل ، ثم أكّد ذلك بآيات من كتاب اللّه تعالى وهي قوله تعالى : « فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُون * وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ »۱ . حكى سبحانه حكاية قول الكُفار في النار ؛ وهم التّابعون للذين

1.سورة الشعراء ۹۴ ـ ۹۸ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
294

أ نّه لم يمثِّل لنفسِه مثالاً قبل شروعه في خلْق العالم ؛ ثم احتذى ذلك المثال ؛ ورُكّب العالم على حسب ترتيبه ، كالصانع الذي يصوغ حلْقة من رصاص مثالاً ، ثم يصوغ حلقة من ذهب عليها ، وكالبنّاء يقدر ويفرض رسوما وتقديراتٍ في الأرض وخطوطا ، ثم يبني بحسبها .
والوجه الثاني : أ نّه يريد بامتثَله احتذاه وتقبّله واتبعه ، والأصل فيه امتثال الأمر في القول ، فنقل إلى احتذاء الترتيب العقلي ، فيكون التقدير أ نّه لم يمثِّل له فاعل آخر قبله مثالاً اتبعه واحتذاه وفعل نظيره ، كما يفعل التلميذ في الصباغة والنجارة شيئا قد مثّل له أُستاذُه صورتَه وهيئته .
فأمّا معنى الفصل فظاهر ، يقول عليه السلام : إنه ابتدع الخلق على غير مثال قدمه لنفسه ولا قدم له غيره ليحتذي عليه ، وأرانا من عجائب صنعته ومن اعتراف الموجودات كلِّها ، بأنها فقيرة محتاجة إلى أنْ يمسكها بقوته ، ما دلّنا على معرفته ضرورة ، وفي هذا إشارة إلى أنّ كلّ ممكن مفتقر إلى المؤثر ، ولما كانت الموجودات كلَّها ـ غيره سبحانه ـ ممكنة ، لم تكن غَنِيّة عنه سبحانه ، بل كانت فقيرة إليه ؛ لأنها لولاه ما بقيت ، فهو سبحانه غنيّ عن كلّ شيء ، ولا شيء من الأشياء مطلقا بغنىً عنه سبحانه ، وهذه من خصوصية الإلهية ، وأجلّ ما تدركه العقول من الأنظار المتعلّقة بها .
ثم قال عليه السلام : وظهرت آثار صنعته ، ودلائل حكمته في مخلوقاته فكانت وهي صامتة في الصورة ناطقة في المعنى بوجوده وربوبيته سبحانه ، وإلى هذا المعنى نظر الشاعر ۱ فقال :

فَوَعَجَبا كَيْفَ يُعْصَى الإلهُأمْ كيف يجحدُه الجاحِدُ!
وَفِي كُلِّ شيء له آيةٌتَدُلُّ على أنّهُ وَاحِدُ
وقال في تفسير قوله تعالى : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ »۲ : إنه عبارة عن هذا المعنى .

الأصْلُ :

۰.فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ ، وَتَلاَحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لاَ

1.أبو العتاهية ، ديوانه ۶۹ ، ۷۰ .

2.سورة الإسراء ۴۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 184546
صفحه از 712
پرینت  ارسال به