297
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وَالْهَيْئَاتِ ، بَدَايَا خَلاَئِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا ، وَفَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَابْتَدَعَهَا!

الشّرْحُ :

الوِجْهة ، بالكسر : الجهة التي يتوجّه نحوها ، قال تعالى : « وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ موَلِّيهَا »۱ . والرَّيْث : البط ء والمتلكِّئ : المتأخّر . والأوَد : الاعوجاج . ولاءم بين كذا وكذا، أي جمع ، والقرائن هنا : الأنفس ، واحدتها قَرونة وقَرينة ، يقال : سمحت قرينته وقَرونته ؛ أي أطاعته نفسُه وذَلّت ، وتابعته على الأمر . وبدايا هاهنا : جمع بديّة ، وهي الحالة العَجيبة ، أبدأ الرجل إذا جاء بالأمر البديء ، أي المعجِب ، والبديّة أيضا : الحالة المبتدأة المبتكرة ، ومنه قولهم : فَعَله بادئَ ذي بَدِيء على وزن « فعيل » ، أي أوّل كلّ شيء . ويمكن أن يحمَلَ كلامُه أيضا على هذا الوجه .
وأمّا خلائق ؛ فيجوز أن يكون أضاف « بدايا » إليها ؛ ويجوز ألاّ يكون أضافه إليها ، بل جعلها بدلاً من « أجناسا » . ويروى « برايا » جمع بريّة . يقول عليه السلام : إنّه تعالى قَدّر الأشياء التي خلقها ، فخلقها محكمة على حَسَب ما قدّر . وألطف تدبيرها ، أي جعله لطيفا ، وأمضى الأُمور إلى غاياتها وحدودها المقدّرة لها ، فهيأ الصَّقْرة للاصطياد ، والخيل للركوب والطّراد ، والسيف للقَطْع ، والقلم للكتابة ، والفَلَك للدوران ونحو ذلك ، وفي هذا إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « كلٌّ ميسَّرٌ لما خلق له » ؛ فلم تتعدّ هذه المخلوقات حدود منزلتها التي جعلت غايتها ، ولا قصّرت دون الانتهاء إليها ، يقول : لم تقف على الغاية ولا تجاوزتها . ثم قال : ولا استصعبتْ وامتنعت إذا أمرها بالمضيّ إلى تلك الغاية بمقتضى الإرادة الإلهية ، وهذا كلّه من باب المجاز ؛ كقوله تعالى : « فَقَالَ لَهَا وَلِلْأرْضِ ائْتِيَا طَوْعا أوْ كَرْها قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ »۲ . وخلاصة ذلك ، الإبانة عن نفوذ إرادته ومشيئته .
ثم علّل نفي الاستصعاب فقال : وكيف يَستصعب ، وإنما صدرت عن مشيئته ! يقول : إذا كانت مشيئتُه هي المقتضيَة لوجود هذه المخلوقات ، فكيف يُسْتَصْعَبُ عليه بلوغها إلى غاياتها التي جعلت لأجلها ، وأصلُ وجودها إنما هو مشيئته ، فإذا كان أصل وجودها

1.سورة البقرة ۱۴۸ .

2.سورة فصّلت ۱۱ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
296

أغووهم من الشياطين وهم المتبوعون . لقد كنّا ضالين إذ سوّيناكم باللّه تعالى ، وجعلناكم مثله ، ووجه الحُجّة أنه تعالى حكى ذلك حكاية منكِرٍ على مَنْ زعم أن شيئا من الأشياء يجوز تسويته بالباري سبحانه ، فلو كان الباري سبحانه جسما مصوّرا ، لكان مشابها لسائر الأجسام المصوّرة ، فلم يكن لإنكاره على من سواه بالمخلوقات معنى .
ثم زاد عليه السلام في تأكيد هذا المعنى ، فقال : كذب العادلون بك ، المثبتون لك نظيرا وشبيها ، يعني المشبِّهة والمجسّمة ، إذ قالوا : إنّك على صورة آدم ، فشبّهوك بالأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها ، وأعطوْك حلية المخلوقين لما اقتضت أوهامهم ذلك ، لم يألفوا أن يكون القادر الفاعل العالم إلاّ جسما ، وجعلوك مركّبا ومتجزئا ، كما تتجزّأ الأجسام ، وقدروك على هذه الخلقة ، يعني خلقة البشر المختلفة القُوى ؛ لأنها مركبة من عناصر مختلفة الطبائع . ثم كرّر الشهادة فقال : أشهد أنّ مَنْ ساواك بغيرك ، وأثبت أنك جوهرٌ أو جسم فهو عادل بك كافر .
وقوله : « في مهبّ فكرها » استعارة حسنة ، ثم قال : « ولا في رَوِيَّات خواطرها » ، أي في أفكارها . محدودا ، ذا حدّ مُصَرّفا ، أي قابلاً للحركة والتغير .

الأصْلُ :

۰.ومنها :قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ ، وَدَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ ، وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ ، وَلَمْ يَقْصُرْ دُونَ الاِْنْتِهَاءِ إِلى غَايَتِهِ ، وَلَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا صَدَرَتِ الأمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ ؟ الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا ، وَلاَ قَريحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا ، وَلاَ تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ ، وَلاَ شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمورِ ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ ، وَأَجَابَ إِلى دَعْوَتِهِ ، لَم يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ ، وَلاَ أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ ، فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا ، وَنَهَجَ حُدُودَهَا ، وَلاَءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا ، وَوَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا ، وَفَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَالْأَقْدَارِ ، وَالْغرَائِزِ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 184492
صفحه از 712
پرینت  ارسال به