299
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وَنَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ ، فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا وَفَتَقَ بَعْدَ الاِرْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا ، وَأَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا ، وَأَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تَمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ ، وَجَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا ، وَقَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا ، وَأَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا ، وَقَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا ، لُِيمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِهِمَا ، وَلِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ والْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا ، ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا ، وَنَاطَ بِهَا زِينَتَهَا ، مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا ، وَمَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا ، وَرَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا ، وَأَجْرَاها عَلَى أَذْلاَلِ تَسْخِيرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا ، وَمَسِيرِ سَائِرِهَا ، وهُبُوطِهَا وَصُعُودِهَا ، وَنُحُوسِهَا وَسُعُودِهَا.

الشّرْحُ :

الرَّهَوات : جمع رَهْوة ، وهي المكان المرتفع والمنخفض أيضا ، يجتمِعُ فيه ماءُ المطر ، وهو من الأضداد . والفُرَج : جمع فُرْجة ، وهي المكان الخالي . ولاحم : ألصق . والصَّدْع : الشَّقّ . ووَشّجَ ، بالتشديد ، أي شبك . ووشجَت العروقُ والأغصان ، بالتخفيف : اشتبكت ، وبيننا رحم واشِجة ، أي مشتبكة . وأزواجها : أقرانها وأشباهها ، قال تعالى : « وَكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاَثَةً »۱ ، أي أصنافا ثلاثة . والحُزونة : ضدّ السّهولة . وأشراجُها : جمع شَرْج ؛ وهو عُرَا العَيْبة ؛ وأشرجتُ العيبة ، أي أقفلت أشراجَها ، وتسمى مجرّة السماء شَرْجاً ؛ تشبيها بشَرْج العيْبة ؛ وأشراج الوادي : ما انفسح منه واتسع . والإرتاق : الارتتاج . والنقاب : جمع نَقْب ؛ وهو الطريق في الجبل . وتمُور : تتحرّك وتذهب وتجيء ؛ قال تعالى : « يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرا »۲ والأيْدُ : القوة . ونَاطَ بها : عَلّق . والدّراريّ : الكواكب المضيئة ، نسبت إلى الدُّرّ لبياضها ؛ واحدها دُرِّيّ ، ويجوز كسر الدال ، مثل بحر لُجيّ ولِجيّ . والثواقب : المضيئات .

1.سورة الواقعة ۷ .

2.سورة الطور ۹ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
298

بمشيئته ، فكيف يستصعب عليه توجيهها لوجهتها ، وهو فرع من فروع وجودها وتابع له!
ثم أعاد معانيَ القول الأول ، فقال : إنه أنشأ الأشياء بغير رويّة ولا فكرة ولا غريزة أضمر عليها خَلْق ما خلق عليها . ولا تجربة أفادها ، أي استفادها من حوادث مرّت عليه من قبْلُ ، كما تكسب التجارب علوما لم تكن ، ولا بمساعدة شريك أعانه عليها . فتمّ خلقُه بأمره إشارة إلى قوله : « ولم يَستصعب إذ أمر بالمضيِّ » ؛ فلما أثبت هناك كونها أُمِرت أعاد لفظ الأمر هاهنا ، والكلّ مجاز ، ومعناه نفوذ إرادته ، إذا شاء أمرا استحال ألاّ يقع ، وهذا المجاز هو المجازُ المستعمَل في قوله تعالى : « إنَّمَا أَمْرُه إذا أراد شيئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »۱ ؛ تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة مواتاة الأُمور له ، وانقيادها تحت قدرته .
ثم قال : ليس كالواحد منها يعترض دون مراده رَيْث وبط ء ، وتأخير والتوَاء . ثم قال : وأقام العِوج وأوضح الطريق ، وجمع بين الأُمور المتضادّة ، ألا ترى أنه جَمَع في بَدَن الحيوانات والنبات بين الكيفيات المتباينة المتنافرة ، من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، ووصلَ أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها ؛ لأنّ اعتدال المزاج أو القرب من الاعتدال سببُ بقاء الروح ، وفَرّقها أجناسا مختلفات الحدود والأقدار ، والخلق والأخلاق والأشكال . أُمورٌ عجيبة بديعة مبتكرة الصنعة ، غير محتذٍ بها حَذْوَ صانع سابق ، بل مخلوقة على غير مثال ، قد أحكم سبحانه صنعها ، وخَلَقها على موجب ما أراد ، وأخرجها من العدم المحض إلى الوجود ، وهو معنى الابتداع ، فإنّ الخلق في الاصطلاح النظريّ على قسمين : أحدهما : صورة تخلق في مادة ، والثاني : ما لا مادّة له ، بل يكون وجودُ الثاني من الأول فقطْ، من غير توسّط المادة ، فالأول يسمّى التكوين ، والثاني يسمى الإبداع ، ومرتبة الإبداع أعلى من مرتبة التكوين .

الأصْلُ :

۰.ومنها في صفة السماء :وَنَظَمَ بِلاَ تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا ، وَلاَحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا ، وَوَشَّجَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِا ، وَذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ ، وَالصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ ، حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا ،

1.سورة يس ۸۲ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 184449
صفحه از 712
پرینت  ارسال به