303
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ في خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ ، وَفي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ ، وَفي قَتْرَةِ الظَّـلاَمِ الْأَيْهَمِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْض السُّفْلَى ، فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيض قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ ، وَتَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ ، قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ ، وَوَصَلَتْ حَقَائِقُ الاْءِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ ، وَقَطَعَهُمُ الاْءِيقَانُ بِهِ إِلى الْوَلَهِ إِليْهِ ، وَلَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ . قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ ، وَشَرِبُوا بِالْكَأْس الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ ، وَتَمَكَّنَتْ مَنْ سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ ، فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهمْ ، وَلَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ ، وَلاَ أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهمْ ، وَلَمْ يَتَوَلَّهُمُ الاْءِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ ، وَلاَ تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الاْءِجْلاَلِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهمْ ، وَلَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُؤوبِهِمْ ، وَلَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ ، وَلَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلاَتُ أَلْسِنَتِهمْ ، وَلاَ مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْس الْجُؤارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ ، وَلَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ . وَلاَ تَعْدُوا عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِم بَلاَدَةُ الْغَفَلاَتِ ، وَلاَ تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ . قَدِْ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْش ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهمْ ، وَيَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلى الَمخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهمْ ، لاَ يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ ، وَلاَ يَرْجِعُ بِهمُ الاِسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ ، إِلاَّ إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَمَخَافَتِهِ ، لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ ، فَيَنُوا في جِدِّهِمْ ، وَلَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ . لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، وَلَوِ اسْتَعْظَمُوا ذلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهمْ بِاسْتِحْواذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ ، وَلاَ تَوَلاَّهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ ، وَلاَ تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ، وَلاَ اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ ، فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيَغٌ وَلاَ عُدُولٌ وَلاَ وَنىً وَلاَ فُتُورٌ ، وَلَيْسَ في أَطْبَاقِ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
302

ونحو ذلك من الأُمور التي لا تخصّ إنسانا بعينه ، وقد قدمنا في ذلك الفصل ما يدل على تصويب هذا الرأي ، وإفساد ماعداه .

الأصْلُ :

۰.ومنها في صفة الملائكة :ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لاِءِسْكَانِ سَموَاتِهِ ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ ، وَمَلَأَ بهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا ، وَحَشَا بِهمْ فُتُوقَ أَجْوَائِها ، وَبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ القُدْسِ ، وَسُتُرَاتِ الْحُجُبِ ، وَسُرَادِقَاتِ المجْدِ ، وَوَرَاءَ ذلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا ، فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا .
وَأَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ ، وَأَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ، أُولِي أَجْنِحَةٍ تُسَبِّحُ جَلاَلَ عِزَّتِهِ ، لاَ يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ ، وَلاَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ ، «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ»۱ جَعَلَهُمُ اللّه فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ ، وَحَمَّلَهُمْ إِلى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ . وَأَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ المَعُونَةِ ، وَأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلاً إِلى تَمَاجِيدِهِ ، وَنَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلاَمِ تَوْحِيدِهِ ، لَمْ تُثْقِلْهُمْ مَوصِرَاتُ الآثَامِ وَلَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّام ، وَلَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهمْ ، وَلَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهمْ ، وَلاَ قَدَحَتْ قَادِحَةُ الاْءِحَنِ فِيما بَيْنَهُمْ ، وَلاَ سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لاَقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهمْ ، وَمَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَهَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهمْ ، وَلَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلى فِكْرِهمْ .

1.سورة الأنبياء ۲۶ ، ۲۷ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 184385
صفحه از 712
پرینت  ارسال به