313
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

الأصْلُ :

۰.فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ ، وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ ، اخْتَارَ آدَمَ عليه السلام ، خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّـتَهُ ، وَأَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ ، وَأَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيَما نَهَاهُ عَنْهُ ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الاْءِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمْعصِيَتِهِ ، وَالْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ؛ فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ ـ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ ، فَأَهَبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ ، وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بهِ عَلَى عِبَادِهِ ، ولَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ ، مِمَّا يُؤكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ ، وَيَصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ ، وَمُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاَتِهِ ، قَرْناً فَقَرْناً؛ حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وسلمحُجَّتُهُ ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَنُذُرُهُ .

الشّرْحُ :

مهد أرضه : سوّاها وأصلحها ، ومنه المهاد وهو الفراش ، ومَهَدْتُ الفراش ، بالتخفيف مَهْدا ، أي بسطته ووطّأته . وقوله : « خَيرة من خَلْقه » على « فِعَلة » ، مثل عِنَبَة ، الاسم من قولك : اختاره اللّه ؛ يقال محمد خِيَرَة اللّه من خلْقه ؛ ويجوز : « خِيرة اللّه » بالتسكين ، والاختيار : الاصطفاء . والجِبِلّة : الخَلْق ؛ ومنه قوله تعالى : « وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ »۱ ، ويجوز « الجُبُلَّة » ، بالضم .
قوله : « وأرْغَدَ فيها أُكُله » ، أي جعل أُكُله ـ وهو المأكول ـ رغدا ، أي واسعا طيبا ، قال سبحانه : « وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا »۲ ، وتقرأ رُغداً ورِغداً بكسر الغين وضمها ، وأرغَدَ القومُ : أخصبوا ، وصاروا في رَغَدٍ من العيش .
قوله : « وأوعز إليه فيما نهاه عنه » ، أي تقدّم إليه بالإنذار ؛ ويجوز « وَعَّز إليه » بالتّشديد توعيزا ، ويجوز التخفيف أيضا وعز إليه وعْزا . والواو في « وأعلمه » عاطفة على « وأوعز » ، لا على « نهاه » .
قوله : « موافاة لسابق علمه » لا يجوز أن ينتصب ؛ لأ نّه مفعول له ، وذلك لأنّ المفعول له

1.سورة الشعراء ۱۸۴ .

2.سورة البقرة ۳۵ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
312

وأما مَنْ رواها « وتُزْدَهَى بما أُلبِسَتْه » على ما لم يسمّ فاعله ، فهي اللغة المشهورة . تقول : زُهِي فلان علينا ، وللعرب أحرف تتكلّم بها على سبيل المفعول به ، وإن كانت بمعنى الفاعل ، كقولهم : عُنِي بالأمر ، ونُتِجَت الناقة ، فتقول على هذه اللغة : فلان يُزْدَهى بكذا .
والرَّيْط جمع رَيْطة ، وهي المُلاءة غير ذاتِ لفقْين . والأزاهير : النّور ذو الألوان . وسمِطَتْ به : علّق عليها السُّمُوط ، جمع سِمْط وهو العقد ، ومن رواه « شَمَطت » بالشين المعجمة ، أراد ما خالط سواد الرياض من النّوْر الأبيض كالأقحوان ونحوه ، فصارت الرياض كالشعر الأشمط . والنّاضر : ذو النَّضارة ، وهي الحسن والطَّرَاوة . وبلاغاً للأنام ، أي كفاية . والآفاق : النّواحي ، والمنار : الأعلام .
وهذا الفصل من كلام أمير المؤمنين عليه السلام قد اشتمل من الاستعارة العجيبة وغيرها من أبواب البديع على ما لو كان موجودا في ديوان شاعر مكثِر ، أو مترسِّل مكثر لكان مستحقّ التقديم بذلك ؛ ألا تراه كيف وصف الأمواج بأنها مستفحلة ، وأنها ترغو رُغاء فحول الإبل . ثم جعل الماءَ جَمّاحا ، ثم وصفه بالخضوع ، وجعل للأرض كَلْكَلاً ، وجعلها واطئة للماء به ، ووصف الماء بالذلِّ والاستخذاء لمّا جعل الأرض متمعِّكة عليه كما يتمعّك الحمار أو الفرس ، وجعل لها كواهل ، وجعل للذل حَكَمة ، وجعل الماء في حَكَمة الذلَّ منقادا أسيرا ، وساجياً مقهورا . وجعل الماء قد كان ذا نخوة وبأوٍ واعتلاء ، فردّته الأرض خاضعا مسكينا ، وطأطأت من شُموخ أنفه ، وسُموّ غلوائه ، وجعلها كاعمة له ، وجعل الماء ذا كِظّة بامتلائه ، كما تعتري الكظّة المستكثر من الأكل . ثم جعله هامدا بعد أن كانت له نزفات ، ولابدا بعد أن كانت له وثبات ، ثم جعل للأرض أكتافا وعرانين ، وأنوفا وخياشيم ؛ ثم نفى النوم عن وميض البرق ، وجعل الجنوب مارية دِرَرَ السحاب ، ثم جعل للسحاب صدراً وبِوَاناً ، ثم جعل الأرض مبتهجة مسرورة مزدهاة ، وجعل لها ريْطا من لباس الزهور ، وسُموطاً تحلّى بها . فياللّه وللعجب من قوم زعموا أن الكلام إنما يفضُل بعضه بعضا لاشتماله على أمثال هذه الصنعة ، فإذا وجدوا في مئة ورقة كلمتين أو ثلاث منها ، أقاموا القيامة ، ونفخوا في الصور ، وملئوا الصحف بالاستحسان لذلك والاستظراف ، ثم يمرّون على هذا الكلام المشحون كله بهذه الصنعة على ألطف وجه ، وأرصع وجه ، وأرشق عبارة ، وأدق معنى ، وأحسن مقصد ، ثم يحملهم الهوى والعصبية على السّكُوت عن تفضيله إذا أجملوا وأحسنوا ، ولم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه ! على أنه لا عجب ، فإنه كلام علي عليه السلام ، وحظّ الكلام حظّ المتكلم ، وأشبه امرأً بعضُ بَزِّهِ!

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183819
صفحه از 712
پرینت  ارسال به