317
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

يشبه هذا إلاّ أن يكون كلامَ الخالق سبحانه ، فإنّ هذا الكلام نَبْعةٌ من تلك الشجرة ، وجدول من ذلك البحر ، وجَذْوة من تلك النار ؛ وكأنه شَرْح قوله تعالى : « وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ »۱ .
ثم نعود إلى التفسير فنقول :
النَّجْوى : المسارّة ، تقول : انتجى القومُ وتناجَوْا ، أي تسارُّوا ، وانتجيتَ زيدا إذا خصصتَه بمناجاتك ؛ ومنه الحديث ، أنه صلّى اللّه عليه وآله أطال النَّجْوى مع عليّ عليه السلام ؛ فقال قوم : لقد أطال اليوم نَجْوَى ابن عَمّه ، فبلغه ذلك فقال : « إنّي ما انتجيتُه ؛ ولكن اللّه انتجاه » . ويقال للسرّ نفسه النَّجْو ، يقال : نجوته نَجْوا أي ساررته ، وكذلك ناجيْتُه مناجاة ، وسمِّي ذلك الأمرُ المخصوص نجوى ؛ لأ نّه يستسرّ به .
والمتخافتين : الذين يسرّون المنطق ، وهي المخافتة والتخافت والخفْت . ورَجْم الظنون : القولُ بالظَّن ، قال سبحانه : « رَجْما بِالْغَيْبِ » ، ومنه « الحديث المرجّم » بالتشديد ، وهو الذي لا يدرَى أحقّ هو أم باطل ، ويقال صار رَجْما ، أي لا يوقف على حقيقة أمره . وعقد عزيمات اليقين : العزائم التي يعقِد القلب عليها وتطمئِنّ النفس إليها . ومسارق إيماض الجفون : ما تسترقه الأبصار حين تومض ، يقال : أومض البصر والبرق إيماضا إذا لمع لَمْعا خفيفا ، ويجوز : ومض بغير همز ، يمض ومْضا ووميضا ووَمَضاناً . وأكنانُ القلوب : غُلُفها ، والكِنّ : الستر ، والجمع أكنان ، قال تعالى : « جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانا »۲ ويروى : « أكنّة القلوب » وهي الأغطية أيضا ، قال تعالى : « وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً »۳ ، والواحد كِنَان . ويعني بالذي ضمنته أكنانُ القلوب ، الضمائر . وغيابات الغيوب : جمع غَيابة ، وهي قَعْر البئر في الأصل ؛ ثم نقلت إلى كلّ غامض خفيّ ، مثل غَيابة ، وقد روي : « غَيَابَات » بالباء . وأصغَتْ : تسمّعت ومالت نحوه . ولاستراقِه : لاستماعه في خُفية ، قال تعالى : « إلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ »۴ . ومصائخ الأسماع : خروقُها التي يُصيخ بها ، أي يتسمّع .
ومصائف الذرّ : المواضع التي يَصِيف الذرّ فيها ، أي يقيم الصيف ، يقال : صافَ بالمكان

1.سورة الأنعام ۵۹ .

2.سورة النحل ۸۱ .

3.سورة الأنعام ۲۵ .

4.سورة الحجر ۱۸ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
316

تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا ، وَتَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا ، وَعَوْمِ نَباتِ الْأَرض فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ ، وَمُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ ، وَتَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ ، وَمَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ ، وَحَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ ، وَمَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ ، أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ ، وَمَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ ، وَسُبُحَاتُ النُّورِ؛ وَأَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ ، وَحِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ ، وَرَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ ، وَتَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ ، وَمُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ ، وَمِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ ، وَهَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ ، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ ، أَوْ ساقِطِ وَرَقَةٍ؛ أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ ، أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَمُضْغَةٍ ، أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَسُلاَلَةٍ؛ لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذلِكَ كُلْفَةٌ ، وَلاَ اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ ، وَلاَ اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الأمُورِ وَتَدَابِيرِ المخلُوقِينَ مَلاَلَةٌ وَلاَ فَتْرَةٌ ، بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ ، وَأَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ ، وَوَسِعَهُمْ عَدْلُهُ ، وَغَمَرَهُمْ فَضْلُهُ ، مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ .

الشّرْحُ :

لو سمع النّضْر بن كنانة هذا الكلام لقال لقائله ما قاله عليّ بن العباس بن جُريج ، لإسماعيل بن بلبل :

قَالُوا أبو الصَّقْرِ مِنْ شَيْبَانَ قَلْتُ لَهُمْكَلاَّ ، وَلَكِنْ لَعَمْرِي مِنْهُ شَيْبَانُ
وكم أبٍ قَدْ عَلاَ بابنٍ ذُرا شَرَفٍكَمَا عَلاَ بِرَسُولِ اللّهِ عَدْنَانُ
إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان ، بل كان يقرّ به عينُ أبيه إبراهيم خليل الرحمن ، ويقول له : إنه لم يُعْفِ ما شيّدْتُ من معالم التوحيد ، بل أخرج اللّه تعالى لك من ظهري ولدا ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعْه أنت في جاهلية النَّبَط . بل لو سمع هذا الكلام أرسطو طاليس ، القائل بأنه تعالى لم يعلم الجزئيّات ؛ لشع قلبهُ وقَفّ شعرُه ، واضطربَ فكره ؛ ألا ترى ما عليه ( هذا الكلام ) من الرُّواء والمهابة ، والعظمة والفخامة ، والمتانة والجزالة ! مع ما قد أُشربَ من الحلاوة والطَّلاوة واللطف والسلاسة ؛ لا أرى كلاما

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183641
صفحه از 712
پرینت  ارسال به