323
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

ومعنى قوله : « الآفاق قد أغامت ، والمحجّة قد تنكّرت » أن الشبهة قد استولتْ على العقول والقلوب ، وجهل أكثرُ الناس محجّة الحق أين هي ؛ فأنا لكم وزيرا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أفتِي فيكم بشريعته وأحكامه خيرٌ لكم مني أميرا محجورا عليه مدبّراً بتدبيركم ، فإني أعلم أنه لا قُدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أصحابه مستقلاًّ بالتدبير ؛ لفساد أحوالكم ، وتعذّر صلاحكم .
وقد حمل بعضُهم كلامه على محمل آخر ، فقال : هذا كلام مُسْتزيد شاكٍ من أصحابه ؛ يقول لهم : دعوني والتمسوا غيري ، على طريق الضَّجر منهم ، والتبرّم بهم والتسخّط لأفعالهم ؛ لأنهم كانوا عَدَلوا عنه من قَبْل ، واختاروا عليه ، فلما طلبوه بعدُ أجابهم جوابَ المتسخّط العاتب .
وحمل قوم منهم الكلام على وجه آخر ، فقالوا : إنه أخرجه مخرج التهكّم والسّخرية ، أي أنا لكم وزيرا خيرٌ مني لكم أميراً فيما تعتقدونه ، كما قال سبحانه : « ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ »۱ ، أي تزعم لنفسك ذلك وتعتقده .

92

الأصْلُ :

۰.أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللّهِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ؛ أَيُّهَا النَّاسُ ، فَإِنيِّ فَقَأتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا ، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا .
فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ ، وَلاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مائَة وَتُضِلُّ مائَة إِلاَّ أَنْبَأتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا ، وَمُنَاخِ رِكَابِهَا ، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا ، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً ، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً .

1.سورة الدخان ۴۹ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
322

الْعَاتِبِ ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ؛ وَلَعَلّي أسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيتُمُوهُ أَمْرَكُمْ ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!

الشّرْحُ :

في أكثر النسخ : « لما أراده الناس على البيعة » ، ووجدت في بعضها : « أداره الناس على البيعة » ، فمن روى الأول جعل « على » متعلّقة بمحذوف ، وتقديره « موافقاً » ، ومن روى الثاني جعلها متعلّقة بالفعل الظاهر نفسه ، وهو « أداره » ، تقول : أدرت فلاناً على كذا ، وداورت فلاناً على كذا ، أي عالجته . ولا تقوم له القلوب ، أي لا تصبر . وأغامت الآفاق : غطّاها الغيم ، أغامت وغامت ، وأغيمت وتغيّمت ، [وفي بعض نسخ الشرح : غيّمت] ، كلّه بمعنى ، والمحجّة : الطريق . وتنكّرت : جهلت فلم تعرف . و « وزيراً » و « أميراً » : منصوبان على الحال .
وهذا الكلام يحمِلُه أصحابُنا على ظاهره ؛ ويقولون : إنه عليه السلام لم يكن منصوصا عليه بالإمامة من جهة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، وإن كان أوْلى الناس بها وأحقهم بمنزلتها .
وتحمله الإمامية على وجهٍ آخر فيقولون : إنّ الذين أرادوه على البَيْعة هم كانوا العاقدين بَيْعة الخلفاء من قبل ، وقد كان عثمان مَنَعهم أو منع كثيرا منهم عن حَقّه من العطاء ؛ لأنّ بني أُميّة استأصلوا الأموال في أيام عثمان ، فلما قُتِل قالوا لعليّ عليه السلام : نبايعك على أن تسيرَ فينا سيرَة أبي بكر وعمر ؛ لأنهما كانا لا يستأثران بالمال لأنفسما ولا لأهلهما ، فطلبوا من عليّ عليه السلام البَيْعة ، على أن يقسّم عليهم بيوت الأموال قسمة أبي بكر وعمر ؛ فاستعفاهم وسألهم أن يطلُبوا غيره ممّن يسير بسيرتهما ؛ وقال لهم كلاما تحته رمز ، وهو قوله : « إنّا مستقبلون أمراً له وجوهٌ وألوان ، لا تقوم له القلوب ؛ ولا تثبت عليه العقول ؛ وإنّ الآفاق قد أغامت ، والمحجّة قد تنكّرت » . قالوا : وهذا كلام له باطنٌ وغَوْر عميق ؛ معناه الإخبار عن غيب يعلمه هو ويجهلونه هم ، وهو الإنذارُ بحرب المسلمين بعضهم لبعض ، واختلافُ الكلمة وظهورُ الفتنة .
ومعنى قوله : « له وجوه وألوان » أ نّه موضع شبهة وتأويل ، فمن قائل يقول : أصاب عليّ ، ومن قائل يقول : أخطأ ؛ وكذلك القول في تصويب محارِبيه من أهل الجمل وصِفّين والنّهْروان وتخطِئتهم ، فإنّ المذاهب فيه وفيهم تشعّبت وتفرّقت جداً .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 147357
صفحه از 712
پرینت  ارسال به