399
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

سَمَاعِهِ . فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ ، وَمِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ . وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ في الآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا . فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَمَزِيدٍ خَاسِرٍ ! إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ . وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ . فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ .قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ؛ فَـلاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ ، مَعَ أنّهُ واللّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ ، وَدَخِلَ الْيَقِينُ ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ ، وَكَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ . فَبَادِرُوا الْعَمَلَ ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ ، فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ العُمرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ .
مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ ، وَمَا فَاتَ أَمْس مِنَ العُمرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ . الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي ، وَالْيَأسُ مَعَ الْمَاضِي . فَاتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ!

الشّرْحُ :

لقائل أن يقول : أمّا كونُه واصَل الحمدَ له من عباده بالنّعم منه عليهم فمعلوم ، فكيف قال : إنه يصلُ النِّعم المذكورة بالشكر ، والشكر من أفعال العباد ، وليس من أفعاله ليكون واصلاً للنّعم به؟
وجواب هذا القائل ، هو أ نّه لما وفّق العباد للشكر بعد أن جعل وجوبه في عقولهم مقرّرا ، وبعد أن أقدرهم عليه ، صار كأنّه الفاعل له ، فأضافه إلى نفسه توسُّعاً ، كما يقال : أقام الأمير الحدّ ، وقتل الوالي اللصّ ؛ وحمدُه سبحانه على البلاءِ ، كحمدِه على الآلاء . ومن الكلام المشهور : « سبحان من لا يُحمد على المكروه سواه » ، والسرّ فيه أنه تعالى إنما يفعلُ المكروه بِنَا لمصالحنا ، فإذا حَمَدْناه عليه فإنما حمدناه على نعمةٍ أنعم بها ، وإن كانَتْ في الظاهر بليّة وألماً .
ثم سأل اللّه أن يعينَه على النفْس البطيئة عن المأمور به ، السريعة إلى المنهيّ عنه . ومن دعاء بعض الصالحين : اللهمّ إني أشكُوا إليك عدوّا بين جنبيّ قد غلب عليّ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
398

عَلَى بَلاَئِهِ . وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى هذِهِ النُّفُوس الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ ، السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ . وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ ، وَأَحْصَاهُ كِتَابُهُ : عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ ، وَكِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ . وَنُؤمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ ، وَوَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ ، إِيماناً نَفَى إِخْلاَصُهُ الشِّرْكَ ، وَيَقِينُهُ الشَّكَ . وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه ، وَأَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وسلمعَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ . لاَيَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ ، وَلاَ يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْهُ .
أُوصِيكُمْ ، عِبَادَ اللّهِ ، بِتَقْوَى اللّهِ الَّتي هِيَ الزَّادُ وَبِهَا الْمَعَاذُ : زَادٌ مُبْلِغٌ ، وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ . دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ ، وَوَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ . فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا ، وَفَازَ وَاعِيهَا .
عِبَادَ اللّهِ ، إِنَّ تَقْوَى اللّهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللّهِ مَحَارِمَهُ ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ ، حَتَّى أَسهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ؛ فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ ، وَالرِّيَّ بِالظَّمَأ ، وَاسْتَقْرَبُوا الأجَلَ ، فَبَادَرُوا الْعَمَلَ ، وَكَذَّبُوا الْأَمَلَ فَـلاَحَظُوا الأجَلَ .
ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَعَنَاءٍ ، وَغِيَرٍ وَعِبَرٍ؛ فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ ، لاَ تُخْطِئُ سِهَامُهُ ، وَلاَ تُؤسَى جِرَاحُهُ . يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ ، وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ . آكِلٌ لاَ يَشْبَعُ ، وَشَارِبٌ لاَ يَنْقَعُ . وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لاَ يَأْكُلُ وَيَبْنِي مَا لاَ يَسْكُنُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللّهِ تَعَالَى لاَ مَالاً حَمَلَ ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ .
وَمِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً ، والْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً؛ لَيْسَ ذلِكَ إِلاَّ نَعِيماً زَلَّ ، وَبُؤساً نَزَلَ . وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ المَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ . فَـلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ ، وَلاَ مُؤمَّلٌ يُتْرَكُ . فَسُبْحَانَ اللّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا ! وَأَظْمَأَ رِيَّهَا ! وَأَضْحَى فَيْئَهَا ! لاَ جَاءٍ يُرَدُّ ، وَلاَ مَاضٍ يَرْتَدُّ . فَسُبْحَانَ اللّهِ ، مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ لِلِحَاقِهِ بِهِ ، وَأَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ!
إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ . وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183473
صفحه از 712
پرینت  ارسال به