401
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

المميّز لأ نّه تعالى لا توصف ذاته بالحسن ، وإنما يوصف بالحسن أفعاله . ووعاها خير واع ، أي من وعاها عنه تعالى وعَقَلها وأجاب تلك الدعوة ، فهو خير واع . وقيل : عني بقوله : « أسمع داع » رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وعني بقوله : « خير واع » نفسَه عليه السلام ؛ لأ نّه أُنزل فيه : «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ »۱ ، والأوّل أظهر .
ثم قال : « فأسمع داعيها » ، أي لم يبق أحدا من المكلّفين إلاّ وقد أسمعه تلك الدعوة . وفاز واعيها ، أفلح مَنْ فَهِمها وأجاب إليها ، لابد من تقدير هذا ؛ وإلاّ فأيّ فوز يحصل لمن فهم ولم يجب ! والتقوى : خشية اللّه سبحانه ومراقبته في السرّ والعلن ، والخشية أصلُ الطاعات ، وإليها وقعت الإشارة بقوله تعالى : « إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ »۲ ، وقوله سبحانه : « وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبْ »۳ . قوله : « حتى أسهرتْ لياليَهم ، وأظمأت هواجرَهم » من قول العرب « نهاره صائم ، وليله قائم » ؛ نقلوا الفعل إلى الظرف ، وهو من باب الاتساع الذي يجرون فيه الظروف مجرى المفعول به ، فيقولون : الذي سرته يوم الجمعة ، أي سرت فيه . قوله عليه السلام : « فأخذوا الراحة بالنَّصَب » ، يروى : « فاستبدلوا الراحة » ، والنَّصَب : التعب . واستقربوا الأجل : رأوه قريبا .
فإن قلت : لماذا كرّر لفظة « الأجل » ، وفي تكرارها مخالفة لفنّ البيان؟
قلت : إنه استعملها في الموضعين بمعنيين مختلفين ، فقوله : « استقربوا الأجل » يعني المدة . وقوله : « فلاحظوا الأجل » يعني الموت نفسه .
ويروى : « موتِر » و « وموتّر » بالتشديد . ولا تؤسَى جراحه : لا تطبّ ولا تصلح ، أسوْت الجرح ، أي أصلحته . ولا ينقع : لا يروى ؛ شَرِب حتى نقع ، أي شفى غليله ، وماء ناقع ، وهو كالناجع ، وما رأيتُ شَرْبة أنقع منها .
وإلى قوله عليه السلام : « يجمع ما لا يأكل ، ويبني ما لا يسكن » نظر الشاعر ، فقال :

أموالُنا لذَوي الميراث نجمعُهاودُورنا لخراب الدهر نبْنيها
قوله : « ومن غِيرها أنّك ترى المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوماً » ، أي يصير الفقير غنياً والغني فقيراً . وأضحى فَيْئَها ، من أضحى الرجل إذا برز للشمس . ثم قال : « لا جاءٍ يُرَدّ

1.سورة الحاقة ۱۲ .

2.سورة الحجرات ۱۳ .

3.سورة الطلاق ۲ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
400

ثم شرع في استغفار اللّه سبحانه من كلّ ذنب ، وعبّر عن ذلك بقوله : « ممّا أحاط به علمُه ، وأحصاه كتابُه » ؛ لأ نّه تعالى عالم بكلّ شيء ، ومحيط بكلّ شيء ، وقد أوضح ذلك بقوله : « علْم غير قاصر ، وكتاب غير مغادر » ، أي غير مبقٍ شيئا لا يحصيه ، قال تعالى : « مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إلاَّ أَحْصَاهَا »۱ . ثم قال : « ونؤمن به إيمان مَنْ عاين وشاهد » ؛ لأنّ إيمان العيان أخلصُ وأوثق من إيمان الخبر ، فإنه ليس الخبر كالعِيان ؛ وهذا إشارة إلى إيمان العارفين الذين هو عليه السلام سيدُهم ورئيسهم ؛ ولذلك قال : « لو كشف الغِطاء ما ازددتُ يقينا » .
وقوله : « تُصعدان القول » إشارة إلى قوله تعالى : « إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ »۲ ، وروي : « تسعدان القول » بالسين ، أي هما شهادتان بالقلب يعاضدان الشهادة باللسان ، ويُسعدانها .
ثم ذكر أنّهما شهادتان لا يخفّ ميزانٌ هما فيه ، ولا يثقلُ ميزان رفعا عنه . أمَّا إنه لا يثقلُ ميزانٌ رُفعا عنه ؛ فهذا لا كلام فيه ، وإنما الشأن في القضية الأُولى ؛ لأنّ ظاهر هذا القول يشعر بمذهب المرجئة الخلّص ؛ وهم أصحاب مقاتل بن سليمان ، القائلون إنّه لا يضرّ مع الشهادتين معصية أصلاً ، وإنه لا يدْخُل النّارَ مَنْ في قلبه ذَرّة من الإيمان ، فنقول في تأويل ذلك إنّه لم يحكم بهذا على مجرّد الشهادتين ، وإنّما حَكَم بهذا على شهادتين مقيّدتين ، قد وصفهما بأنهما يصعدان القول ، ويرفعان العمل ، وتانِك الشهادتان المقيّدتان بذلك القيْد ، إنما هما الشهادتان اللّتَان يقارنهما فعلُ الواجب وتجنّب القبيح ؛ لأ نّه إن لم يقارنْهما ذلك لم يَرْفعا العمل ، وإذا كان حكمه عليه السلام بعد خِفّة ميزان هما فيه ، إنما هو على شهادتيْن مقيّدتين لا مطلقتين ، فقد بطل قولُ مَنْ يجعل هذا الكلام حجّة للمرجئة .
ثم أخذ في الوصاة بالتقوى ، وقال « إنها الزاد في الدنيا الذي يزوّد منه لسفر الآخرة وبها المعاذ ، مصدر من عُذْت بكذا ، أي لجأت إليه واعتصمت به . ثم وصفهما ـ أعني الزاد والمعاذ ـ فقال : « زاد مُبْلغ » ، أي يبلغُك المقصد والغاية التي تسافر إليها ، ومعاذ منجح ، أي يصادف عنده النجاح . دعا إليها أسمع داع ، يعني البارئ سبحانه ؛ لأ نّه أشدّ الأحياء إسماعاً لما يدعوهم إليه ، وروي : « دعا إليها أحسن داع » ، أي أحسن داع دعا ، ولا بدّ من تقدير هذا

1.سورة الكهف ۴۹ .

2.سورة فاطر ۱۰ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183515
صفحه از 712
پرینت  ارسال به