419
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

أخذوا على الناس بأطراف الأرض ، أي حصروهم ، يقال لمن استولى على غيره وضيّق عليه : قد أخذ عليه بأطراف الأرض . وزحْفا زحْفا ، منصوب على المصدر المحذوف الفعل ، أي يزحفون زحفاً ، والكلمة الثانية تأكيد للأُولى . وكذلك قوله : « وصَفّا صَفّا » .
ثم ذكر أنّ بعض هؤلاء المتأسَّف عليهم هلك ، وبعض نجا ، وهذا ينحى قوله تعالى : « فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ »۱ .
ثم ذكر أنّ هؤلاء قوم وقَذَتْهم العبادة ، وانقطعوا عن الناس ، وتجرّدوا عن العلائق الدنيوية ، فإذا ولد لأحدهم مولود لم يبشّر به ، وإذا مات له ميّت لم يعزَّ عنه . ومَرِهت عين فلان ، بكسر الراء ، إذا فسدت لترك الكُحْل ، لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام جعل مَرَهَ عيون هؤلاء من البكاء من خوف خالقهم سبحانه . وذكر أن بطونهم خماص من الصوم ، وشفاههم ذابلة من الدعاء ، ووجوههم مصفرّة من السَّهر ؛ لأنهم يقومون الليل وعلى وجوههم غَبَرة الخشوع . ثم قال : « أولئك إخواني الذاهبون » .
فإن قلت : مَنْ هؤلاء الذين يشير عليه السلام إليهم؟
قلت : هم قوم كانوا في نَأْنأة الإسلام وفي زمان ضعفه وخموله أربابَ زهد وعبادة وجهاد شديد في سبيل اللّه ، كمصعب بن عمير من بني عبد الدّار ، وكسعد بن معاذ من الأوس ، وكجعفر بن أبي طالب ، وعبد اللّه بن رواحة ، وغيرهم ممن استشهد من الصالحين ، أرباب الدين والعبادة والشجاعة في يوم أُحد ، وفي غيره من الأيام في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وكعمّار ، وأبي ذَرّ ، والمقداد ، وسلمان ، وخَبّاب ، وجماعة من أصحاب الصُفّة وفقراء المسلمين أرباب العبادة ، الذين قد جمعوا بين الزهد والشجاعة .
قوله : « فحَقّ لنا » يقالَ حقّ له أن يفعل كذا ، وهو حقيق به ، وهو محقوق به ، أي خليقٌ له ، والجمع أحقّاء ومحقوقون . ويسنِّي : يسهّل . وصدف عن الأمر يصدِف ، أي انصرف عنه . ونزغات الشيطان : ما ينزَغ به ، بالفتح ، أي يفسد ويغري . ونفثاته : ما ينفِث به وينفُث ، بالضم والكسر ، أي يخيّل ويسحر . واعقلوها على أنفسكم ، أي اربطوها والزموها .

1.سورة الأحزاب ۲۳ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
418

المصاحف ، فإن استقمتم لي اهتديتم بي ، وإن لم تستقيموا فذلك ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : أن تعوجوا ، أي يقع منكم بعض الالتواء ، ويسيرٌ من العصيان ، كفتور الهمّة وقلة الجدّ في الحرب .
والثاني : التأنِّي والامتناع المطلق من الحرب . فإن كان الأول قوّمْتكم بالتأديب والإرشاد وإرهاق الهمم والعزائم ، بالتبصير والوعظ والتحريض والتشجيع ، وإن كان الثاني تداركت الأمر معكم ؛ إمّا بالاستنجاد بغيركم من قبائل العرب وأهل خُراسان والحجاز . فكلّهم كانوا شيعتَه وقائلين بإمامته ، أو بما أراه في ذلك الوقت من المصلحة التي تحكم بها الحال الحاضرة .
قال : لو فعلت ذلك لكانتْ هي العقدة الوثقى ، أي الرأي الأصوب الأحزم .
واعلم أنه عليه السلام لما قال هذا القول ، واستدرك بكلام آخر حذَرا أن يثبِتَ على نفسه الخطأ في الرأي ، فقال : لقد كان هذا رأياً لو كان لي من يطيعني فيه ، ويعمل بموجبه ، وأستعين به على فعله ، ولكن بمنْ كنت أعمل ذلك ؟ وإلى مَنْ أخلد في فعله ؟! أمّا الحاضرون لنصري فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشّقاق والعصيان ، وأمّا الغائبون من شيعتي كأهل البلاد النائية فإلى أن يصلوا قد بلغ العدوّ غرضه منّي ، ولم يبقَ مَنْ أخلُد إليه في إصلاح الأمر وإبرام هذا الرأي الذي كان صواباً لو اعتمد ؛ إلا أنْ أستعين ببعضكم على بعض ، فأكون كناقش الشوكة بالشوكة ، وهذا مثل مشهور : « لا تنقش الشوكة بالشوكه » ، فإن ضَلْعها لها ، والضلع الميل ، يقول : لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها ، فإن إحداهما في القوّة والضعف كالأُخرى ، فكما أنّ الأُولى انكسرت لَمّا وطئتَها فدخلتْ في لحمك ، فالثانية إذا حاولت استخراج الأُولى بها تنكسر ، وتلج في لحمك .
ثم قال : « اللّهم إن هذا الداء الدويّ ، قد ملّت أطباؤه » ، والدويّ : الشديد ، كما تقول ليلٌ أليل . وكلّت النَّزَعة ، جمع نازع ، وهو الذي يستقي الماء ، والأشطان : جمع شَطَن ، وهو الحبل . والرّكيّ : الآبار ، جمع رَكيّة ، وتجمع أيضاً على ركايا .
ثم قال : أين القوم ؟! هذا كلام متأسّفٍ على أُولئك ، متحسّر على فقدهم . والوله : شدّة الحب حتى يذهب العقل ، وَلِهَ الرجل . واللِّقاح ، بكسر اللام : الإبل ، والواحدة لقوح ، وهي الحلوب ، مثل قِلاص وقلوص . قوله : « وأخذوا بأطراف الأرض » ، أي

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 182839
صفحه از 712
پرینت  ارسال به