497
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

151

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلاموَأَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ الشَّيْطَانِ وَمَزَاجِرِهِ ، وَالاِعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَمَخَاتِلِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَنَجِيبُهُ وَصَفْوَتُهُ .لاَ يُؤَازَى فَضْلُهُ ، وَلاَ يُجْبَرُ فَقْدُهُ . أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ الْمُظلمَةِ ، وَالْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ ، وَالْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ؛ وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ ، وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ ؛ يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ .
ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلاَيَا قَدِ اقْتَرَبَتْ . فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ ،
وَاحْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ ، وَتَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ ، وَاعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا ، وَظُهُورِ كَمِينِهَا ، وَانْتِصَابِ قُطْبِهَا ، وَمَدَارِ رَحَاهَا ، تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ ، وَتَؤولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّة . شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُـلاَمِ ، وَآثَارُهَا كَآثَارِ السِّلاَمِ ، يَتَوَارَثُهَا الظَلَمَةُ بالْعُهُودِ ! أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لاِخِرِهِمْ ، وَآخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بأَوَّلِهِمْ؛ يَتَنَافَسُونَ في دُنيَا دَنِيَّةٍ ، وَيَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ . وَعَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ المَتبُوعِ ، وَالْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ ، فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ ، وَيَتَلاَعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ .
ثُمَّ يَأتِي بَعْدَ ذلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ ، وَالْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ؛ وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا ، وَتَلْتَبِسُ الاْرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا . مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ ، وَمَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ ؛ يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ ! قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ ، وَعَمِيَ وَجْهُ الْأَمْرِ . تَغِيضُ فِيهَا الْحِكْمَةُ ، وَتَنْطِقُ فِيهَا الظَلَمَةُ ، وَتَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا ، وَتَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا !


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
496

كقوله تعالى : « حَتَّى إَذا أتَيَا أهلَ قَرْيَةٍ استَطْعَمَا أهْلَهَا فَأَبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارا يُريِدُ أَنْ يَنْقَضّ فَأَقَامَهُ »۱ ؛ فالعامل في الظرف « استطعما » ويجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلَها لا محالة . ولا يجب أن تكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة واقعة حال الإتيان أيضا ؛ ألا ترى أنّ من جملتها « فأقامه » ولم يكن إقامَة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخيا عنه بزمان ما ؛ اللهم إلا أن يقول قائل : أشار بيده إلى الجدار فقام ، أو قال له ؛ قم ، فقام ، لأ نّه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا للإتيان إلاّ على هذا الوجه ؛ وهذا لم يكن ، ولا قاله مفسّر . ولو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له : « لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجَرا » ؛ لأنّ الأجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه مشقّة ؛ وإنما يكون فيه مشقّة إذا بناه بيده ، وباشره بجوارحه وأعضائه .
واعلم أنا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يقتضيه سؤددُه الجليل ، ومنصبه العظيم ، ودينه القويم ، من الإغضاء عَمّا سلف ممّن سلف ؛ فقد كان صاحَبَهم بالمعروف بُرْهةً من الدهر ، فأمّا أنْ يكون ما كانوا فيه حقَّهم أو حقه ، فتركه لهم رفعاً لنفسه عن المنازعة ، أو لما رآه من المصلحة ؛ وعلى كلا التقديرين فالواجب علينا أن نطبّق بين آخر أفعاله وأقواله بالنسبة إليهم وبين أولها ؛ فإنّ بُعْد تأويل ما يتأوّله من كلامه ، ليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد والعدل الآيات المتشابهة في القرآن ، ولم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظةً على الأُصول المقررة ؛ فكذلك هاهنا ۲ .

1.الكهف ۷۷ .

2.نقلنا كلام الشارح بطوله ليعلم طلاب الحقيقة أنه اعترف بأنّ كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام صريح أو ظاهر في خلاف ما تأوّله ، وأن في تأويله بعدا ، ثم إنّه عدل عن هذا الصريح أو الظاهر إلى غيره من غير دليل واضح جدير بالقبول ، إلاّ لأ نّه يخالف معتقده ومذهب أصحابه ، ولو ساغ تأويل الأدلة بهذه الطريقة ، لَمَا صحّ التمسك بأي دليل أو برهان أصلاً ؛ لأ نّه يمكن لكلّ مخالف لأي دليل أنّ يتأوّل هذا الدليل بما يوافق معتقده ومذهبه أو هواه وإن بعُد التأويل ؛ وهذا باطل قطعا ، لأ نّه سوف يؤدي إلى عدم الوثوق بأي دليل وخطاب . وأمّا قوله : إنه وإن بعُد التأويل فليس بأبعد من تأويل المتشابهات ... » . والجواب : إن تأويل المتشابهات لا يصار إليه إلاّ بعد قيام الدليل القطعي ( عقلي أو نقلي ) على خلاف ظاهر النص ، وأما ابن أبي الحديد فقد تأوّل الكلام لا لحجّة ولا لدليل عقلي أو نقلي ظني فضلاً عن القطعي ، وإنّما لأ نّه يخالف مذهب أصحابه . وأمّا ما أورده في المثال لمدّعاه في الآية الكريمة ، فهو غير صحيح ؛ لأنّ ( الفاء ) في فأقامه تقتضي الترتيب والتعقيب ، ويكفي في تحقق معنى الجميع فيها أن يقع أوّل المعطوف بها في آخر زمان المعطوف عليه ؛ ويصيران بذلك كالفعل الواحد ، بخلاف ( الواو ) فإنّها لا تفيد تعقيبا وترتيبا . والمقصود بالتعاطف ـ هنا ـ هو تشارك المتعاطفات في وقت قبض الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأنّ سَوْقَ الكلام يدل عليه دون أدنى شك . وأمّا ما ذهب إليه في النهاية إلى الاعتماد على ( تحميل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يقتضيه سؤدده الجليل ومنصبه العظيم ... الخ ) فهذه تأويلات سقيمة لم تُقنع حتى صاحبها ؛ لأنها تصادر المناقشات العلمية وتصيّرها إلى ما يلائم الهوى .. وأخيرا لابد من التفريق بين تقديم الإمام عليه السلام نصيحته وتوجيهه للخلفاء الثلاثة من أجل مصلحة الإسلام ، وبين رأي الإمام في أصل مشروعية خلافتهم وولايتهم ، فإنّ تقديم النصيحة لا يعني الرضا بولايتهم قطعا . ثم إنّ الإمام عليه السلام منذ قبض الرسول إلى أن قبضه اللّه تعالى لا ينفك يعلن عن تظلّمه وطعنه في أقوال وأفعال من سبقوه ، مما لا يمكن تأويله بحال ، والأمر هيّن ما دام أن الشارح أعلن أن مصدر تأوّلاته وتعسفه هو تعصّبه لعقيدته ومذهب أصحابه ، لا اتباع الدليل ونشدان الحقيقة . انظر : نهج البلاغة الخطبة ۱۷۲ ، وشرح النهج ۹ : ۳۰۶ و۹ : ۵۴ و۳ : ۶۸ ومروج الذهب للمسعودي ۲ : ۱۲ ، والأغاني ۱۵ : ۴۶ لتقرأ تظلّم الإمام عليه السلام من قريش ، ثم لتعرف موقفه الصريح ممّن تقدم عليه من الخلفاء .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 147320
صفحه از 712
پرینت  ارسال به