501
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

لغموض الشّبهة واستيلاء الباطل على أهل وقتها . ويكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أنّ الراكب الذي هو بمظنّة النّجاة لا ينجُو . والركْبان : جمع راكب ، ولا يكون إلاّ ذا بعِير . قوله : تَرِدُ بمُرّ القضاء ، أي بالبوار والهلاك والاستئصال .
فإن قلت : أيجوز أن يقال للفتنة القبيحة : إنها من القضاء؟
قلت : نعم ، لا بمعنى الخلْق بل بمعنى الإعلام ، كما قال سبحانه : « وَقَضَيْنَا إلَى بني إسْرَائيلَ فِي الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ »۱ ، أي أعلمناهم .
قوله : « وتحلُب عَبِيط الدماء » ، أي هذه الفتنة يحلُبها الحالب دما عبيطا ، وهذه كناية عن الحرب ، وقد قال عليه السلام في موضع آخر : « أما واللّه ليحلبنّها دماً ، وليتبعنها ندماً » . والعبيط : الدم الطريّ الخالص . وثَلَمت الإناء ، أثلِمه بالكسر . والأكياس : العقلاء . والأرجاس : جمع
رِجْس ، وهو القَذَر والنّجس ، والمراد هاهنا الفاسقون . قوله : « مِرْعادٌ مبراقِ » ، أي ذات وعيد وتهدّد ، ويجوز أن يعني بالرّعد صوتَ السلاح وقعقعته ، وبالبرق لونَه وضوءه . وكاشفة عن ساقٍ : عن شدّة ومشقة .
قوله : « بريئها سقيم » ؛ يمكن أن يعني بها أنّها لشدّتها لا يكاد الّذي يبرأ منها وينفض يده عنها يبرأ بالحقيقة ، بل لابدّ أن يستثنيَ شيئا من الفسق والضلال ، أي لشدّة التباس الأمر واشتباه الحال على المكلّفين حينئذٍ . ويمكن أن يعني به أنّ الهارب منها غير ناجٍ ، بل لابدّ أن يصيبه بعض معرّتها ومضرّتها . وظاعنها مقيم ، أي ما يفارق الإنسان من أذاها وشرّها ، فكأنه غير مفارق له ؛ لأ نّه قد أبقى عنده ندوبا وعقابيل من شرورها وغوائلها .

الأصْلُ :

۰.منها :بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ ، وَخَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ ، يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الأَيْمَانِ وَبِغُرُورِ الاْءِيمَانِ؛ فَـلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ . وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ؛ وَاقْدَمُوا عَلَى اللّهِ مَظلُومِينَ ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ؛ وَاتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَمَهَابِطَ الْعُدْوَانِ ؛ وَلاَ تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ ، فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ مَنْ

1.سورة الإسراء ۴ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
500

فإن قلت : ألم تكن قلتَ : إنّ قوله : « عن قليل يتبرّأ التابع من المتبوع » يعني به يوم القيامة ؟ فكيف يقول : « ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة » وهذا إنّما يكون قبل القيامة ؟!
قلت : إنّه لمّا ذكر تنافس الناس على الجيفة المنتنة وهي الدنيا ، أراد أن يقول بعده بلا فصل : « ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف » ، لكنه لما تعجّب من تزاحم الناس وتكالُبِهم على تلك الجيفة ، أراد أن يؤكّد ذلك التعجّب ، فأتى بجملة معترضة بين الكلامين . تؤكد معنى تعجّبه منهم ، فقال : إنَّهم على ما قد ذكرنا من تكالُبهم عليها ؛ عن قليل يتبرّأ بعضهم من بعض ، ويلعن بعضُهم بعضاً ، وذلك أدْعى لهم ـ لو كانوا يعقلون ـ إلى أن يتركوا التكالُب والتهارُش على هذه الجيفةِ الخسيسةِ . ثم عاد إلى نظام الكلام ، فقال : « ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرَّجوف » ، ومثلُ هذا الاعتراض في الكلام كثير ، وخصوصا في القرآن ، وقد ذكرنا منه فيما تقدّم طرفاً .
قوله : « والقاصمة الزَّحُوف » ، القاصمة : الكاسرة ، وسماها زَحُوفا تشبيها لمشيها قُدُما
بمشي الدَّبي الذي يهلك الزروع ويبيدها ، والزحف : السير على تُؤَدة ، كسيْرِ الجيوش بعضها إلى بعض . قوله : « وتزيغ قُلوب » أي تميل . ونجومُها : مصدر نَجَم الشرّ إذا ظهر . مَنْ أشرف لها : مَنْ صادَمها وقابلها . ومَنْ سعى فيها ، أي في تسكينها وإطفائها ، وهذا كلّه إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان . والتكادُم : التعاضّ بأدْنى الفم ، كما يكدِم الحمار ، ويقال : كَدَم يكدِم ، والمكدَم : المعضّ . والعانة : القطيع من حُمر الوحش ، والجمع عُون . تغيض فيها الحكمة : تنقُض . والمِسْحَل : المبرد . يقول : تنحت أهلَ البدْو وتسحتُهم كما يُسحَتُ الحديد أو الخشب بالمبرد . وأهل البدْو : أهلُ البادية ، ويجوز أن يريد بالمسْحَل الحلْقة التي في طرَف شَكيم اللّجام المعترضة بإزاء حَلْقة أُخرى في الطرف الآخر ، وتدخل إحداهما في الأُخرى ؛ بمعنى أنّ هذه الفتنة تصدم أهل البدْو بمقدمة جيشها كما يصدِمُ الفارسُ الراجل أمامه بمسْحَل لجام فرسه . والكَلْكَل : الصدر . وترضّهم : تدقُّهم دقّا جريشاً.
قوله : « تضيع في غبارها الوُحْدان » ، جمع واحد ، مثل شابّ وشبّان ، وراعٍ ورُعيان ، ويجوز « الأُحدان » بالهمز ، أي مَنْ كان يسير وحده فإنه يهلك بالكليَّة في غبارها ، وأما إذا كانوا جماعة ركباناً فإنهم يضلّون ، وهو أقربُ من الهلاك ، ويجوز أن يكونَ الوُحدان جمع أوحد ؛ يقال : فلان أوحد الدّهر ، وهؤلاء الوُحدان أو الأحدان ، مثل أسود وسُودان ، أي يضلّ في هذه الفتنة ، وضلالها الذي كنّى عنه بالغبار فضلاء عصرِها وعلماء عهدها ؛

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 182823
صفحه از 712
پرینت  ارسال به