507
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

« وانتظرنا الغِيَر انتظار المجدب المطر » ؛ وهذا الكلام يدلّ على أ نّه قد كان يتربّص بعثمان الدوائر ، ويرتقب حلول الخطوب بساحتِه ، لِيَلِيَ الخلافة .
فإن قلت : أليس هو الذي طلّق الدنيا ، فأين هذا القول من طلاقها؟
قلت : إنه طلّق الدنيا أن يقبل منها حظا دنيويّا ، ولم يطلقها ، أن ينهى فيها عن المنكرات التي أمره اللّه تعالى بالنهي عنها ، ويقيم فيها الدين الذي أمره اللّه بإقامته ، ولا سبيل له إلى
النّهي عن المنكَر والأمر بالمعروف إلاّ بولاية الخلافة .
فإن قلت : أيجوز على مذهب المعتزلة أن يقال : إنّه عليه السلام كان ينتظر قتل عثمان انتظار المجدب المطر ، وهل هذا إلاّ محض مذهب الشيعة قلت :
إنه عليه السلام لم يقل : « وانتظرنا قتله » وإنما انتظر الغيَر ، فيجوز أن يكون أراد انتظار خلعه وعزله عن الخلافة . فإن علياً عليه السلام عند أصحابنا كان يذهب إلى أن عثمان استحق الخلع بإحداثه ولم يستحق القتل ، وهذا الكلام إذا حُمل على انتظار الخلع كان موافقاً لمذهب أصحابنا ۱ .

1.أقول : إن الظلم تفاقم أيام عثمان بسبب ما أحدثه من أُمور معروفة ، منها تمكينه بني أُمية من رقاب المسلمين ، فاستحق بذلك الخلع ، وبَعد محاصرته ومطالبه المسلمين له بتغيير الأوضاع وثورتهم عليه . فلم ينكر أميرالمؤمنين عليه السلام حصاره ولا المطالبة بخلعه ، وتسليم من كان سبب الفتنة ممّن كان في جبهته ، بل كان عليه السلام راضياً بذلك ، وبخلافه ساخطاً . وقد حذّره من قبلُ مَن القتل ومن سوء العاقبة ، بقوله عليه السلام : « أنشدك اللّه أن تكون إمام هذه الأُمة المقتول ، فإنه كان يقال : يقتل في هذه الأُمة إمام يجرّ عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة » . وقد شكّك علماؤنا بقضية إنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليهماالسلام للدفاع عن عثمان ولو سلمنا ، وقلنا : إنه أنفذهما ، فإنما أنفذهما ليمنعان من انتهاك حريمه وتعمّد قتله ومنع حرمه ونسائه من الطعام والشراب ، ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع فإنه عليه السلام كان مساعداً على خلعه ونقض أمره . وأمّا قتله ، فالمعروف أنّ الإمام عليه السلام كان ينكر قتله ويبرأ من ذلك ، فقد أخرج البلاذري في الأنساب ۵ : ۹۸ عن طريق أبي جلدة اليشكري : أنه سمع علياً عليه السلام يقول وهو يخطب فذكر عثمان ، فقال : « واللّه الذي لا إله إلاّ هو ، ما قتلته ، ولا مالأتُ على قتله ولا سائني » . هذا هو مذهب الشيعة ، صرّح به عيون رجالهم كالمرتضى في الشافي ۴ : ۲۴۰ ، والمجلسي في البحار ۲۸ : ۴۰۶ ، والطوسي في التلخيص ۲ : ۱۳۲ وغيرهم ، لا كما زعم الشارح المتحيّز . وأمّا قوله عليه السلام : « وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر » فهو إشارة إلى ما كان يتوقّعه من انتقال هذا الأمر إليه ، وأراد بالغير ، تغيّرات الدهر وتقلّبات الأحوال ، ومن لواحق انتقال الأمر إليه شمول العدل ، وظهور الحق ، وانتشار الخير والبركة وأشار عليه السلام بقوله : « طلع طالع » إلى عود الخلافة إليه ، « ولمع لامع » إلى ظهورها من حيث هي حق له ، وسطوع أنوار العدل فيها ، و « لاح لائح » إلى ما يلحق انتقالها إليه من الفتن والحروب الواقعة أيام خلافته عليه السلام . « واعتدل مائل » إلى خلافة من كان قبله في نظره ، إذ كان اعتقاده أ نّه عليه السلام أولى بها وأنّ العدل أن يكون فيه ، واعتدل ذلك المائل بانتقالها إليه .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
506

صحيح ومدلول عليه ؛ لأ نّه عالم فيما لم يزل وليس شيء من الأشياء بموجود ، وهو ربّ كلّ شيء قبل أن يخلقه ، كما تقول إنّه سميع بصير قبل أن يدرك المسموعات والمبصَرات ، أي قبل أن يخلقها ، وقادر على الأشياء قبل كونها ؛ لأ نّه يستحيل حال كونها أن تكون مقدورة ، لاستحالة إيجاد الموجود .
وقد شرحنا كل هذه المسائل التوحيدية في كتبنا المصنّفة في علم الكلام .

الأصْلُ :

۰.منها :قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ ، وَلَمَعَ لاَمِعٌ ، وَلاَحَ لاَئِحٌ ، وَاعْتَدَلَ مَائِلٌ؛ وَاسْتَبْدَلَ اللّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً ، وَبِيَوْمٍ يَوْماً ؛ وَانْتَظَرْنَا الْغِيَرَ انْتِظَارَ الْمُـجْدِبِ الْمَطَرَ .
وَإِنَّمَا الأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَعُرَفَاؤهُ عَلَى عِبَادِهِ؛ وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ إِلاَّ منْ أَنْكَرَهُمْ وَأَنْكَرُوهُ .
إِنَّ اللّهَ تَعَالَى خَصَّكُمْ بِالاْءِسْلاَمِ ، وَاسْتَخْلَصَكُمْ لَهُ ، وَذلِكَ لِأَنَّهُ اسْمُ سَلاَمَةٍ ، وَجِمَاعُ كَرَامَةٍ . اصْطَفَى اللّهُ تَعَالَى مَنْهَجَهُ ، وَبَيَّنَ حُجَجَهُ ، مِنْ ظَاهِرِ عِلْمٍ ، وَبَاطِنِ حِكَمٍ ، لاَ تَفْنَى غَرَائِبُهُ ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ .
فِيهِ مَرَابِيعُ النِّعَمِ ، وَمَصَابِيحُ الظُّلَمْ ، لاَ تُفْتَحُ الْخَيْرَاتُ إِلاَّ بِمَفَاتِيحِهِ ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُماتُ إِلاَّ بِمَصَابِيحِهِ . قَدْ أَحْمَى حِمَاهُ ، وَأَرْعَى مَرْعَاهُ . فِيهِ شِفَاءُ المُشتَفِي ، وَكِفَايَةُ الْمُكْتَفِي .

الشّرْحُ :

هذه خطبة خطب بها بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه .
قد طلع طالع ، يعني عَوْد الخلافة إليه ، وكذلك قوله : « ولمع لامع ، ولاح لائح » ؛ كلّ هذا يراد به معنىً واحد . واعتدل مائل ، إشارة إلى ما كانت الأُمور عليه من الاعوجاج في أواخر أيام عثمان ، واستبدل اللّه بعثمان وشيعته عليّا وشيعتَه ، وبأيام ذاك أيام هذا . ثم قال :

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183099
صفحه از 712
پرینت  ارسال به