وبقيت القضيّة الثانية ففيها الإشكال ، وهي قوله عليه السلام : « ولا يدخل النَّار إلاّ مَنْ أنكرهم وأنكروه » ، وذلك أنّ لقائل أن يقول : قد يدخل النار مَنْ لم ينكرهم ؛ مثل أن يكون إنسان يعتقِد صحّة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة ، ثم يزني أو يشربُ الخمر من غير توبة ، فإنه يدخل النار ؛ وليس بمنكر للأئمة ؛ فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية وبين الاعتزال!
فالجواب : أن الواو في قوله « وأنكروه » بمعنى « أو » كما في قوله تعالى : « فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاَثَ وَرُبَاعَ »۱ ، فالإنسان المفروض في السؤال وإن كان لا ينكر الأئمة إلاّ أنّهم ينكرونه ، أي يسخطون يوم القيامة أفعاله ، يقال : أنكرت فعل فلان أي كرهته ؛ فهذا هو تأويل الكلام على مذهبنا ، فأمّا الإماميّة فإنّهم يحملون ذلك على تأويل آخر ، ويفسرون قوله : « ولا يدخل النار » ، فيقولون : أراد ولا يدخل النار دخولاً مؤبداً إلاّ من ينكرهم وينكرونه .
ثم ذكر عليه السلام شرفَ الإسلام ، وقال : إنه مشتقّ من السّلامة ، وإنه جامع للكرامة ، وإنّ اللّه قد بين حججه ، أي الأدلة على صحّته . ثم بين ما هذه الأدلة ، فقال : « من ظاهر علم ، وباطن حكم » أي حكمه ، فـ « مِن » هاهنا للتبيين والتفسير ؛ كما تقول : دفعت إليه سلاحاً من سيف ورمح وسهم ؛ ويعني بظاهر عِلم وباطن حكم ، القرآن ، ألا تراه كيف أتى بعده بصفات ونعوت لا تكون إلاّ للقرآن ؛ من قوله : « لا تفنى عزائمه » أي آياته المحكمة ، و « براهينه العازمة » أي القاطعة . ولا تنقضي عجائبه ؛ لأ نّه مهما تأمّله الإنسان استخرج منه بفكر غرائبَ عجائب لم تكن عنده من قبل .
« فيه مرابيع النّعم » ، المرابيع الأمطار التي تجيء في أول الربيع فتكون سببا لظهور الكلأ ، وكذلك تدبّر القرآن سبب للنعم الدينية وحصولها . قوله : « قد أحمى حماه ، وأرعى مرعاه » الضمير في « أحمى » يرجع إلى اللّه تعالى ، أي قد أحمى اللّه حماه ، أي عرّضه لأنّ يُحمَي ، كما تقول : أقتلت الرجل ، أي عرّضْته لأنّ يقتل . وأضربته ، أي عرّضته لأنّ يضرب ؛ أي قد عرّض اللّه تعالى حمى القرآن ومحارمه لأنّ يجتنب ومكّن منها ، وعرّض مَرعاه لأنّ يُرْعى ، أي مكّن من الانتفاع بما فيه من الزواجر والمواعظ لأ نّه خاطبنا بلسان عربي مبين ،