509
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وبقيت القضيّة الثانية ففيها الإشكال ، وهي قوله عليه السلام : « ولا يدخل النَّار إلاّ مَنْ أنكرهم وأنكروه » ، وذلك أنّ لقائل أن يقول : قد يدخل النار مَنْ لم ينكرهم ؛ مثل أن يكون إنسان يعتقِد صحّة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة ، ثم يزني أو يشربُ الخمر من غير توبة ، فإنه يدخل النار ؛ وليس بمنكر للأئمة ؛ فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية وبين الاعتزال!
فالجواب : أن الواو في قوله « وأنكروه » بمعنى « أو » كما في قوله تعالى : « فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاَثَ وَرُبَاعَ »۱
، فالإنسان المفروض في السؤال وإن كان لا ينكر الأئمة إلاّ أنّهم ينكرونه ، أي يسخطون يوم القيامة أفعاله ، يقال : أنكرت فعل فلان أي كرهته ؛ فهذا هو تأويل الكلام على مذهبنا ، فأمّا الإماميّة فإنّهم يحملون ذلك على تأويل آخر ، ويفسرون قوله : « ولا يدخل النار » ، فيقولون : أراد ولا يدخل النار دخولاً مؤبداً إلاّ من ينكرهم وينكرونه .
ثم ذكر عليه السلام شرفَ الإسلام ، وقال : إنه مشتقّ من السّلامة ، وإنه جامع للكرامة ، وإنّ اللّه قد بين حججه ، أي الأدلة على صحّته . ثم بين ما هذه الأدلة ، فقال : « من ظاهر علم ، وباطن حكم » أي حكمه ، فـ « مِن » هاهنا للتبيين والتفسير ؛ كما تقول : دفعت إليه سلاحاً من سيف ورمح وسهم ؛ ويعني بظاهر عِلم وباطن حكم ، القرآن ، ألا تراه كيف أتى بعده بصفات ونعوت لا تكون إلاّ للقرآن ؛ من قوله : « لا تفنى عزائمه » أي آياته المحكمة ، و « براهينه العازمة » أي القاطعة . ولا تنقضي عجائبه ؛ لأ نّه مهما تأمّله الإنسان استخرج منه بفكر غرائبَ عجائب لم تكن عنده من قبل .
« فيه مرابيع النّعم » ، المرابيع الأمطار التي تجيء في أول الربيع فتكون سببا لظهور الكلأ ، وكذلك تدبّر القرآن سبب للنعم الدينية وحصولها . قوله : « قد أحمى حماه ، وأرعى مرعاه » الضمير في « أحمى » يرجع إلى اللّه تعالى ، أي قد أحمى اللّه حماه ، أي عرّضه لأنّ يُحمَي ، كما تقول : أقتلت الرجل ، أي عرّضْته لأنّ يقتل . وأضربته ، أي عرّضته لأنّ يضرب ؛ أي قد عرّض اللّه تعالى حمى القرآن ومحارمه لأنّ يجتنب ومكّن منها ، وعرّض مَرعاه لأنّ يُرْعى ، أي مكّن من الانتفاع بما فيه من الزواجر والمواعظ لأ نّه خاطبنا بلسان عربي مبين ،

1.سورة النساء ۳ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
508

ثم قال عليه السلام : « الأئمة قوّام اللّه على خلقه » ، أي يقومون بمصالحهم ، وقيّم المنزل : هو المدبّر له . « وعرفاؤه على عباده » : جمع عرِيف ، وهو النقيب والرئيس ، يقال : عَرُف فلان
بالضمّ عرافةً بالفتح ، مثل خَطُب خطابة أي صار عريفاً ، وإذا أردت أ نّه عمِل ذلك قلت : عَرَف فلان علينا سنين ، يعرُف عِرافة بالكسر ، مثل كَتبَ يكتبُ كِتابة . قال : « ولا يدخل الجنّة إلاّ مَنْ عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النّار إلاّ مَنْ أنكرهم وأنكروه » ، هذا إشارة إلى قوله تعالى : « يَوْمَ ندْعُو كلّ أُنَاسٍ بإمامِهِمْ »۱ ، قال المفسّرون : ينَادى في الموقف : يا أتْبَاعَ فلان ، ويا أصحاب فلان ، فينَادَى كلّ قوم باسم إمامهم ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : لا يدخل الجنة يومئذٍ إلاّ مَنْ كان في الدّنيا عارفا بإمامه ، ومَنْ يعرفه إمامه في الآخرة ، فإنّ الأئمة تعرف أتباعها يوم القيامة ، وإن لم يكونوا رأوْهم في الدنيا ، كما أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يشهد للمسلمين وعليهم ، وإن لم يكُنْ رأى أكثَرهم ، قال سبحانه : « فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشهيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شَهِيدا »۲ وجاء في الخبر المرفوع : « مَنْ مات بغير إمام مات مِيتة جاهليّة » ۳ ، وأصحابنا كافّة قائلون بصحّة هذه القضيّة ؛ وهي أنه لا يدخل الجنَّة إلاّ من عرَف الأئمة ۴ .

1.سورة الإسراء ۷۱ .

2.سورة النساء ۴۱ .

3.مسند أحمد ۵ : ۶۱ / ح۱۶۴۳۴ ، والحديث معتضد بألفاظ أُخر من طرق شتى مروية في الصحاح والمسانيد والمجاميع الحديثية المعتبرة كصحيح مسلم وغيره .

4.إن الأئمة الذين عناهم بقوله عليه السلام : « إن الأئمة قوّام اللّه على خلقه ... » إنما هم الأئمة من ولده عليهم السلام ، خلفاء اللّه في أرضه ، ورحمته المهداة إلى عباده ، وهم أصحاب الأمر والنهي ، ومن لهم حق الولاية والإطاعة ، وإليهم يعود تدبير شؤون الناس ، والمراد من معرفتهم معرفة حق ولايتهم وصدق إمامتهم . فلا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وأطاع أمرهم ، أو شهدوا له عند اللّه سبحانه بالإيمان والاستقامة . وهذا يستلزم أنه لا يدخل الجنة منكرٌ لهم عليه السلام . ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه ، فمن أنكر إمامتهم وولايتهم ، ولم يعترف بهم ولم يأخذ دينه منهم فهو إلى النار لا محالة . فالجاهل بالحق وأهله ، أو العالم به وبهم لكنّه أنكر وعاند ، فسوف يدخله اللّه النار .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183011
صفحه از 712
پرینت  ارسال به