55
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

بها بين الأضداد ، وألّف بين الأشتات ، وكثيرا ما أُذاكِرُ الإخوان بها ، وأستخرجُ عَجَبهم منها ؛ وهي موضع العبرة بها ، والفكرة فيها .

الشرح :

قَبَع القُنْفذ يَقْبَع قُبوعا ، إذا أدخل رأسَه في جلده ، وكذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه ؛ وكلّ مَن انزوى في جُحْر أو مكان ضَيّق فقد قَبَع . وكِسْر البيت : جانب الخِباء . وسفح الجبل : أسفله ، وأصلُه حيث يَسْفَحُ فيه الماء . ويقطّ الرقاب : يقطعها عَرْضا لا طولاً ، ويُجَدِّل الأبطال : يُلْقِيهم على الجَدالة ، وهي وجهُ الأرض . وينطُف دماً : يقطر ، والأبدال : قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، إذا مات أحدُهم أبدَل اللّه مكانه آخر ، قد وَرَد ذلك في كثير من كُتب الحديث .
كان أمير المؤمنين عليه السلام ذا أخلاقٍ متضادّة .
فمنها ماقد ذكره الرضيّ ؛ ، وهو موضع التعجّب ؛ لأنّ الغالبَ على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة ، أنْ يكونوا ذَوِي قلوب قاسية ، وفَتْكٍ وتمرُّد وجَبريّة ؛ والغالب على أهل الزهد ورفضِ الدنيا وهجرانِ ملاذّها والاشتغالِ بمواعظ الناس وتخويفهم المعادَ ، وتذكيرهم الموتَ ، أن يكونوا ذوِي رقّة ولين ، وضَعْف قلْب ، وخَوَرِ طَبْع ؛ وهاتان حالتان متضادتان ، وقد اجتمعتا له عليه السلام .
ومنها أنّ الغالبَ على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء ، أن يكونوا ذوِي أخلاق سَبعية ، وطِباع حوشية وغرائز وحشية ، وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذَوِي انقباض في الأخلاق ، وعُبوس في الوجوه ، ونِفار من الناس واستيحاش ؛ وأميرُ المؤمنين عليه السلام كان أشجعَ الناس وأعظمَهم إراقة للدم ، وأزهد الناس وأبعدَهم عن ملاذّ الدنيا ، وأكثرهم وعظا وتذكيرا بأيّام اللّه ومَثُلاته ، وأشدّهم اجتهادا في العبادة وآدابا لنفسه في المعاملة . وكان مع ذلك ألطفَ العالم أخلاقا ، وأسفرَهم وجها ، وأكثرهم بِشرا ، وأوفاهم هشاشة ، وأبعدَهم عن انقباض موحِش ، أو خُلُق نافر ، أو تجهّم مباعِد ، أو غِلْظة وفظاظة تَنفِر معهما نفس ، أو يتكدّر معهما قلْب . حتى عِيب بالدّعابة ، ولمّا لم يجدوا فيه مغمزاً ولا مطعناً تعلَّقوا بها ، واعتمدوا في التنفير عنه عليها .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
54

قال الرضيّ رحمه الله :

( ورأيت كلامَه عليه السلام ، يدور على أقاطبٍ ثلاثة : أوّلها الخُطَب والأوامر ، وثانيها الكُتُب والرسائل ، وثالثها الحِكَم والمواعظ ؛ فأجمعتُ بتوفيق اللّه سبحانه على الابتداء باختيار محاسنِ الخطب ، ثم محاسن الكتب ، ثم محاسن الحِكم والأدب ، مُفرِدا لكلّ صِنفٍ من ذلك باباً ، ومفصِّلاً فيه أوراقا ، ليكونَ مقدّمة لاستدراك ما عساه يشذّ عَنِّي عاجلاً ، ويقع إليّ آجلاً . وإذا جاء شيء من كلامه الخارج في أثناء حِوار ، أو جواب سؤال ، أو غرض آخرَ من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتُها ، وقرّرْتُ القاعدة عليها ، نسبتُه إلى ألْيَق الأبواب به ، وأشدِّها ملامحة لغرضه . وربّما جاء فيما أختارُه من ذلك فصولٌ غيرُ متّسقة ، ومحاسنُ كلمٍ غير منتظمة ؛ لأنِّي أورِدُ النُّكَت واللُّمع ، ولا أقصِد التتاليَ والنَّسَق ) .

الشرح :

قوله : « أجمعت على الابتداء » ، أي عزمت .
والمحاسن : جمع حَسَن ، على غير قياس ، كما قالوا : الملامح والمذاكر ؛ ومثله المقابح . والحِوار ، بكسر الحاء ، مصدر حاورتُه ، أي خاطبته . والأنحاء : الوجوه والمقاصد . وأشدّها مُلامحة لغرضه ، أي أشدّها إبصارا له ونظرا إليه ، من لمحت الشيء ؛ وهذه استعارة ، يقال : هذا الكلام يَلمح الكلامَ الفلانيّ ، أي يشابهه ؛ كأنّ ذلك الكلام يُلْمحُ ويُبصر من هذا الكلام .

قال الرضيّ رحمه الله :

( ومنْ عجائبه عليه السلام التي انفرد بها ، وأمِنَ المشاركةَ فيها أنّ كلامه الواردَ في الزّهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ؛ إذا تأمّله المتأمِّل ، وفكّر فيه المفكِّر ، وخلع من قلبه أنّهُ كلامُ مثله ، ممّن عَظُم قدره ، ونفَذ أمرُه ، وأحاط بالرّقاب مُلْكه ، لم يعترضْه الشكّ في أنه كلامُ مَنْ لاحظّ له في غير الزّهادة ، ولا شُغْلَ له بغير العبادة ، قد قَبَع في كِسر بيتٍ ، أو انقطع إلى سَفْح جبلٍ ، لا يَسمع إلاّ حسَّه ، ولا يَرى إلاّ نفسَه ، ولا يكادُ يوقِن بأنّه كلامُ مَن يَنغَمِس في الحرب ، مُصْلِتا سيفَه ، فَيقُطُّ الرّقاب ، ويُجَدِّلُ الأبطال ، ويعودُ به ينطُف دما ، ويقطُر مُهَجا ؛ وهو مع تلك الحال ، زاهد الزّهاد وبَدَل الأبدال . وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللّطيفة ، التي جَمَع

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183494
صفحه از 712
پرینت  ارسال به