قال الرضيّ رحمه الله :
( ورأيت كلامَه عليه السلام ، يدور على أقاطبٍ ثلاثة : أوّلها الخُطَب والأوامر ، وثانيها الكُتُب والرسائل ، وثالثها الحِكَم والمواعظ ؛ فأجمعتُ بتوفيق اللّه سبحانه على الابتداء باختيار محاسنِ الخطب ، ثم محاسن الكتب ، ثم محاسن الحِكم والأدب ، مُفرِدا لكلّ صِنفٍ من ذلك باباً ، ومفصِّلاً فيه أوراقا ، ليكونَ مقدّمة لاستدراك ما عساه يشذّ عَنِّي عاجلاً ، ويقع إليّ آجلاً . وإذا جاء شيء من كلامه الخارج في أثناء حِوار ، أو جواب سؤال ، أو غرض آخرَ من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتُها ، وقرّرْتُ القاعدة عليها ، نسبتُه إلى ألْيَق الأبواب به ، وأشدِّها ملامحة لغرضه . وربّما جاء فيما أختارُه من ذلك فصولٌ غيرُ متّسقة ، ومحاسنُ كلمٍ غير منتظمة ؛ لأنِّي أورِدُ النُّكَت واللُّمع ، ولا أقصِد التتاليَ والنَّسَق ) .
الشرح :
قوله : « أجمعت على الابتداء » ، أي عزمت .
والمحاسن : جمع حَسَن ، على غير قياس ، كما قالوا : الملامح والمذاكر ؛ ومثله المقابح . والحِوار ، بكسر الحاء ، مصدر حاورتُه ، أي خاطبته . والأنحاء : الوجوه والمقاصد . وأشدّها مُلامحة لغرضه ، أي أشدّها إبصارا له ونظرا إليه ، من لمحت الشيء ؛ وهذه استعارة ، يقال : هذا الكلام يَلمح الكلامَ الفلانيّ ، أي يشابهه ؛ كأنّ ذلك الكلام يُلْمحُ ويُبصر من هذا الكلام .
قال الرضيّ رحمه الله :
( ومنْ عجائبه عليه السلام التي انفرد بها ، وأمِنَ المشاركةَ فيها أنّ كلامه الواردَ في الزّهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ؛ إذا تأمّله المتأمِّل ، وفكّر فيه المفكِّر ، وخلع من قلبه أنّهُ كلامُ مثله ، ممّن عَظُم قدره ، ونفَذ أمرُه ، وأحاط بالرّقاب مُلْكه ، لم يعترضْه الشكّ في أنه كلامُ مَنْ لاحظّ له في غير الزّهادة ، ولا شُغْلَ له بغير العبادة ، قد قَبَع في كِسر بيتٍ ، أو انقطع إلى سَفْح جبلٍ ، لا يَسمع إلاّ حسَّه ، ولا يَرى إلاّ نفسَه ، ولا يكادُ يوقِن بأنّه كلامُ مَن يَنغَمِس في الحرب ، مُصْلِتا سيفَه ، فَيقُطُّ الرّقاب ، ويُجَدِّلُ الأبطال ، ويعودُ به ينطُف دما ، ويقطُر مُهَجا ؛ وهو مع تلك الحال ، زاهد الزّهاد وبَدَل الأبدال . وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللّطيفة ، التي جَمَع