541
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

بعينه ، بل كلّ إنسانٍ هذه صفته ، فالخطاب له والحديث معه .
ثم قال : « كلّ رجاءٍ إلاّ رجاء اللّه فهو مدخول » ، أي معيب ، والدَّخْل ، بالتسكين : العيب والرّيبة ، وجاء « الدَّخَل » بالتحريك أيضا ، يقال : هذا الأمر فيه دَخَل ودَغَل ، بمعنى قوله تعالى : « وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ »۱ ، أي مكرا وخديعة ، وهو من هذا الباب أيضا .
ثم قال : « وكلّ خوف محقّق إلاّ خوف اللّه فإنه معلول » : محقّق ، أي ثابت ، أي كلّ خوفٍ حاصل حقيقة فإنّه من هذا الحصول والتحقق معلول ليس بالخوف الصريح ؛ إلاّ خوف اللّه وحده وتقواه ، وهيبته وسطوته وسخطه ، ذلك لأنّ الأمر الذي يُخاف من العبد سريع الانقضاء والزوال ، والأمر الذي يُخاف من الباري تعالى لا غاية له ولا انقضاء لمحذوره ، كما قيل في الحديث المرفوع : « فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة » .
ثمّ عاد إلى الرجاء ، فقال : يرجو هذا الإنسان اللّه في الكثير ، أي يرجو رحمتَه في الآخرة ، ولا يتعلّق رجاؤه باللّه تعالى إلاّ في هذا الموضع ، فأمّا ما عدا ذلك من أُمور الدنيا كالمكاسب والأموال والجاه والسلطان واندفاع المضارّ والتوصّل إلى الأغراض بالشفاعات والتوسلات ، فإنه لا يخطر له اللّه تعالى ببالٍ ، بل يعتمد في ذلك على السُّفَراء والوسطاء ، ويرجو حصول هذه المنافع ، ودفعَ هذه المضارّ من أبناء نوعه من البشر ، فقد أعطى العبادَ مِنْ رجائه ما لم يعطه الخالق سبحانه ، فهو مخطئٌ ؛ لأ نّه إمّا أن يكونَ هو في نفسه صالحا لأنّ يرجوه سبحانه ، وإمّا ألاّ يكون البارئ تعالى في نفسه صالحا لأنّ يُرجَى . فإن كان الثاني ، فهو كُفْرٌ صُراح . وإن كان الأوّل ، فالعبد مخطئ حيث لم يجعل نفسه مستعدّا لفعل الصالحات لأنّ يصلحَ لرجاء البارئ سبحانه .
ثم انتقل عليه السلام إلى الخوف ، فقال : وكذلك إن خاف هذا الإنسان عبدا مثلَه ؛ خافه أكثر من خوفه البارئ سبحانه ؛ لأنّ كثيرا من الناس يخافون السلطان وسطوته أكثر من خوفهم مؤاخذة البارئ سبحانه ؛ وهذا مشاهَد ومعلوم من النّاس ، فخوف بعضهم من بعض كالنقد المعجّل ، وخوفهم من خالقهم ضِمارٌ ووعد . والضِّمار : ما لا يرجَى من الوعود والديون .
ثم قال : « وكذلك من عظمت الدنيا في عينه » يختارها على اللّه ، ويستعبده حبّها . ويقال : كبُر ، بالضّمّ ، يكبُر أي عَظُم ؛ فهو كبير وكُبَار بالتخفيف ؛ فإذا أفرط قيل : « كُبّار » بالتشديد ۲ ، فأمّا كَبِر بالكسر ، فمعناه أسنّ ؛ والمصدر منهما كَبَرا ، بفتح الباء .

1.سورة النحل ۹۴ .

2.كما في قوله تعالى : « وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» . سورة نوح ۲۲ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
540

تعالى ، وعظيم مخلوقاته بمكيال عقله ، فقد ضل ضلالاً مبيناً . وروي : « وفكره جائراً » ، بالجيم ، أي عادلاً عن الصواب . والحسير : المتعَب . والمبهور : المغلوب . والواله : المتحيّر .

الأصْلُ :

۰.منها :يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أنّهُ يَرْجُو اللّهَ ، كَذَبَ وَالْعَظِيمِ ! مَا بَالُهُ لاَ يَتَبَيَّنُ رَجَاؤهُ فِي عَمَلِهِ ؟ فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤهُ فِي عَمَلِهِ ـ إِلاَّ رَجَاءَ اللّهِ ـ فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ ، وَكُلُّ خَوْفٍ مُحْقَّقٌ ـ إِلاَّ خَوْفَ اللّهِ ـ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ . يَرْجُو اللّهَ فِي الْكَبِيرِ ، وَيَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ ، فَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لاَ يُعْطِي الرَّبَّ ! فَمَا بَالُ اللّهِ جَلَّ ثَنَاؤهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ لِعِبَادِهِ ؟ أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً ؟ أَوْ تَكُونَ لاَ تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً ؟ وَكَذلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ ، أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لاَ يُعْطِي رَبَّهُ ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً ، وَخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً وَوَعْداً . وَكَذلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ ، وَكَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ ، آثَرَهَا عَلَى اللّهِ ، فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا ، وَصَارَ عَبْداً لَهَا .

الشّرْحُ :

يجوز « بزُعمه » بالضم و « بزَعْمه » بالفتح ، و « بِزِعْمه » بالكسر ، ثلاث لغات ، أي بقوله ، فأمّا من « زعمت » ، أي كفلت ، فالمصدر « الزَّعم » بالفتح ، والزّعامة .
ثم أقسم على كذب هذا الزَّاعم ، فقال : « والعظيم » ، ولم يقل : واللّه العظيم ، تأكيدا لعظمة البارئ سبحانه ؛ لأنّ الموصوف إذا ألقِيَ وتُرِك واعتمِد على الصّفة حتى صارت كالاسم ، كان أدلّ على تحقّق مفهوم الصفة ، كالحارث والعباس . ثم بيّن مستنَد هذا التكذيب ، فقال : ما بالُ هذا الزاعم ! إنّه يرجو ربَّه ، ولا يَظهر رجاؤه في عمله ، فإنّا نَرَى مَنْ يَرجو واحدا من البشر يلازم بابه ؛ ويواظب على خدمته ويتحبّب إليه ، ويتقرّبُ إلى قلبه بأنواع الوسائل والقُرَب ؛ ليظفَر بمراده منه ، ويتحقّق رجاؤه فيه ، وهذا الإنسان الذي يزعم أ نّه يرجُو اللّه تعالى ، لا يظهر من أعماله الدينية ما يدلّ على صدق دَعْواه . ومراده عليه السلام هاهنا ليس شخصا

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183695
صفحه از 712
پرینت  ارسال به