545
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وَآلِهِ ـ عَلَماً لِلسَّاعَةِ ، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ ، وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ . خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً ، وَوَرَدَ الاْخِرَةَ سَلِيماً . لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ . فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَ نْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ ، وَقَائِداً نَطأُ عَقِبَهُ ! وَاللّهِ لَقَدْ رَقَعْتُ مِدْرَعَتِي هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا . وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ : أَلاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ ؟ فَقُلْتُ : اغْرُبْ عَنِّي ؛ فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى ۱ .

الشّرْحُ :

المقتصّ لأثره : المتّبع له ، ومنه قوله تعالى : « وَقالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ »۲ . وقَضَم الدنيا : تناول منها قَدْر الكَفاف ، وما تدعُو إليه الضرورة من خَشِن العيشة ، وقال أبو ذَرّ رحمه اللّه : « يَخضِمون ونقضِم ، والموعد اللّه ! » . وأصلُ القَضْم ، أكلُ الشيء اليابس بأطراف الأسنان ، والخَضْم : أكلٌ بكلّ الفم للأشياء الرّطبة ، وروي : « قَصَم » بالصاد ، أي كسر . قوله : « أهضَمُ أهلِ الدّنيا كشحاً » الكشْحُ : الخاصرة ، ورجلٌ أهضَم : بيِّن الهَضم ؛ إذا كان خميصا لِقلّةِ الأكل . وروي : « وحقَر شيئا فحقَره » بالتخفيف . والشّقاق : الخلاف . والمحادّة : المعاداة . وخَصَف النَّعْل : خرزها . والرياش : الزينة ، والمِدْرعة . الدّرّاعة . وقوله : « عند الصّباح يحمد القوم السرى » ؛ مثل يضرب لمحتمِل المشقّة العاجلة ، رجاء الراحة الآجلة .
جاء في الأخبار الصّحيحة أنه عليه الصلاة والسلام ، قال : « إنّما أنا عبدٌ آكل أكلَ العبيد ، وأجلس جِلْسة العبيد » . وجاء في الأخبار الصحيحة النهيُ عن التصاوير وعن نصب الستور التي فيها التصاوير ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمإذا رأى سِتْرا فيه تصاوير أمر أن تقطع رأس تلك الصورة .
قوله : « لم يضع حَجَرا على حَجَر » هو عين ما جاء في الأخبار الصحيحة ، خَرَج رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من الدنيا ولم يضع حجَراً على حجر .
وجاء في أخبار عليّ عليه السلام التي ذكرها أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل في كتاب فضائله ، قيل

1.العزاء : الصبر . وتعزّ بعزاء اللّه ، أي امتثل أمره بالصبر . الخميص : خالي البطن وأخمصهم : أكثرهم ضمورا . المدرعة : ثوب من الصوف . الرياش : اللّباس الفاخر : تطأ عقبه : نقتفي أثره . السرى : السير ليلاً . تنبذها : ترميها . اغرب عني : تباعد عني .

2.سورة القصص ۱۱ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
544

الأصْلُ :

۰.فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ ، صَلّى اللّهُ عَلَيهِ وآله وَسَلّم ، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى ، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى . وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ . قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً ، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً ، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً ، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً ، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَعَلِمَ أَنَّ اللّهَ تَعَالَى أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً للّه ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللّهِ تَعَالَى . وَلَقَدْ كَانَ ـ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ ، وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ ، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ : يَا فُـلاَنَةُ ـ لاِءِحْدَى أَزْوَاجِهِ ـ غَيِّبِيهِ عَنِّي ، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنَيَا وَزَخَارِفَهَا . فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً ، وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً ، وَلاَ يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً ، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ ، وَأَشْخَصَهَا ، عَنِ الْقَلْبِ ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ .
وَكَذلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ . وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللّهِ ـ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا ، إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ ، وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ . فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ : أَكْرَمَ اللّهُ مُحَمَّداً ـ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلّم ـ بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ ؟! فَإِنْ قَالَ : أَهَانَهُ ، فَقَدْ كَذَبَ وَاللّهِ الْعَظِيمِ ، وأتى بِالاْءِفْكِ الْعَظِيمِ ، وَإِنْ قَالَ : أَكْرَمَهُ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ . فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ ، فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً ـ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183267
صفحه از 712
پرینت  ارسال به