67
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

« عالما بها قبل ابتدائها » ، إشارة إلى أنّه عالم بالأشياء فيما لم يزَل . وقوله : « محيطا بحدودها وانتهائها » ، أي بأطرافها ونهاياتها . « عارفا بقرائنها وأحنائها » ، القرائن جمع قَرُونة ، وهي النفس . والأحناء : الجوانب ، جمع حِنْو ، يقول : إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحَها ، عارف بجهاتها وسائر أحوالها المتعلّقة بها والصادرة عنها .

الأصْلُ :

۰.ثُمَّ أَنْشَأَ ـ سُبْحَانَهُ ـ فَتْقَ الْأَجْواءِ ، وَشَقَّ الْأَرْجَاءِ وَسَكَائِكَ الْهَوَاءِ ، فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلاطِما تَيَّارُهُ مُتَرَاكِما زَخَّارُهُ . حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ ، واَلزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ ، فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ ، وَقَرَنَهَا إلَى حَدِّهِ . الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ ، وَالْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ . ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحا اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا ، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا ، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها ، وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا ، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السَّقَاءِ وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ . تَرُدُّ أَوَّلَهُ إلَى آخِرِهِ ، وَسَاجِيَهُ إلَى مَائِرِهِ ، حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ ، وَرَمَى بالزَّبَدِ رُكَامُهُ ، فَرَفَعَهُ في هَواءٍ مُنْفَتِقٍ ، وَجَوٍّ مُنْفَهِقٍ ، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ، جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجا مَكْفُوفا ، وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفا مَحْفُوظا ، وَسَمْكا مَرْفُوعا ، بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَلاَ دِسَارٍ يَنْظِمُهَا . ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَواكِبِ ، وَضِيَاءِ الثَّواقِبِ ، وَأَجْرَى فِيهَا سِرَاجا مُسْتَطِيرا ، وَقَمَرا مُنِيرا في فَلَكٍ دَائِرٍ ، وَسَقْفٍ سَائِرٍ ، وَرَقِيمٍ مَائِرٍ .

الشّرْحُ :

لسائل أن يسأل فيقول : ظاهرُ هذا الكلام أنّه سبحانه خلق الفضاء والسماوات بعد خَلْق كلّ شيء ؛ لأنّه قد قال قبل : « فَطَرَ الخلائق ، ونشر الرياح ، ووتّد الأرض بالجبال » ، ثم عاد فقال : « أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء » ، وهو الآن يقول : « ثمّ أنشأ سبحانه فَتْق الأجواء » ، ولفظة « ثمّ » للتراخي .
فالجواب : إنّ قوله : « ثم » هو تعقيب وتراخ ، لا في مخلوقات البارئ سبحانه ، بل في


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
66

سَلْب الموجودات كلّها في الأزَل ، صدق سلبُ ما يؤنِس أو يوحِش ؛ فتوحّده سبحانه بخلاف توحّد غيره . « أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء » ۱ ، كلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء والبلغاء ؛ كقوله سبحانه : « لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ »۲ . وقوله : « لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُم شِرْعَةً وَمِنْهَاجا »۳ . « بلا رَوِيَّةٍ أجالها » ، فالرويّة : الفِكْرة ، وأجالها : ردّدها . ومن رواه : « أحالها » بالحاء ، أراد صرفها . وقوله : « ولا تجربة استفادها » ، أي لم يكن قد خلق من قبلُ أجساما فحصَلت له التجربة التي أعانته على خَلْق هذه الأجسام .
وقوله : « ولا حركة أحدثها » ، فيه ردّ على الكرّامية الذين يقولون : إنّه إذا أراد أنْ يخلُق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا ، يسمّى الإحداث ، فوقع ذلك الشيء المباين عن ذلك المعنى المتجدّد المسمَّى إحداثا . « ولا هَمامة نفس اضطرب فيها ۴ » ، فيه ردٌّ على المجوس والثَّنَوِيّة القائلين بالهمامة ، ولهم فيها خَبْط طويل يذكره أصحاب المقالات ، وهذا يدلّ على صحّة ما يقال : إنّ أميرَ المؤمنين عليه السلام كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين ، ويعلم العلوم كلّها ، وليس ذلك ببعيد من فضائله ومناقبه عليه السلام . « أحال الأشياء لأوقاتها » ، فمن رَواها : « أحَلّ الأشياء لأوقاتها » ، فمعناه جعل محلّ كلّ شيء ووقته ، كمحلّ الديْن . ومن رواها : « أحال » ، فهو من قولك : حال في مَتْن فرسه ، أي وثب ، وأحاله غيرُه ، أي أوْثبَه على متْن الفرس ؛ عدّاه بالهمزة ، وكأنّه لما أقرّ الأشياء فيأحيانها وأوقاتها صار كمن أحال غيرَه على فرسه . « ولاءم بين مختلفاتها » ، أي جعل المختلفات ملتئِمات ، كما قَرَن النفس الروحانية بالجسد الترابيّ ، جلّت عظمتُه ! « وغرّز غرائزها » ، المرويّ بالتشديد ، والغريزة : الطبيعة ، وجَمْعها غرائز ، وقوله : « غرّزها » ، أي جعلها غرائز ، كما قيل : سبحان من ضوّأ الأضواء ! ويجوز أنْ يكونَ من غرزتُ الإبرة بمعنى غرست . وقد رأينا في بعض النسخ بالتخفيف . « وألزمها أشباحها » ، الضمير المنصوب في « ألزمها » عائد إلى الغرائز ، أي ألزم الغرائز أشباحَها ، أي أشخاصها ، جمع شَبح ، وهذا حقّ ؛ لأنّ كلاًّ مطبوع على غريزة لازمة ، فالشّجاع لا يكون جبانا ، والبخيل لا يكون جواد ، وكذلك كلّ الغرائز لازمة لا تنتقل .

1.انشأه ، وابتدأه بمعنى أوجده على غير مثال سابق .

2.سورة فاطر ۳۵ .

3.سورة المائدة ۴۸ .

4.همامة النفس : الاهتمام والتردد .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 183665
صفحه از 712
پرینت  ارسال به