103
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

«بأمر أخرج به منها ملَكا» ، معناه أنّ اللّه تعالى لا يدخِل الجنة بشرا يصحبه أمر أخرج اللّه به مَلَكاً منها .

الأصْلُ:

۰.فَاحْذَرُوا ـ عِبَادَ اللّهِ ـ عَدُوَّ اللّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ ، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ . فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ ، وَأَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ ، وَرَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ، فَقَالَ : «رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ»۱ ، قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ ، وَرَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ ؛ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ ، وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ ، وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ . حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ ، وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ ، فَنَجَمَتِ فيه الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ ، وَدَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ ، فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ ، وَأَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ ، وَأَوْطَؤُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ ، طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ ، وَحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ ، وَدَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ ، وَقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ ، وَسَوْقاً بِخَزَائمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ المُعَدَّةِ لَكُمْ ؛ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً ، وَأَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً ، مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مُتَأَ لِّبِينَ .
فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ ، وَلَهُ جِدَّكُمْ ، فَلَعَمْرُ اللّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ ، وَوَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ ، وَدَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ ، وَأَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ ، وَقَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ . يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ ، وَيَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ ، لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ ، وَلاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ ، فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ ، وَحَلْقَةِ ضِيقٍ ، وَعَرْصَةِ مَوْتٍ ، وَجَوْلَةِ بَلاَءٍ .
فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ ، وَأَحْقَادِ الجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ ، وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ .

1.سورة الحجر : ۳۹ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
102

المنظر الحسن . والعَرْف : الريح الطيبة . والخُيلاء ، بضم الخاء وكسرها : الكِبْر ، وكذلك الخالُ والمخيلة ، تقول : اختال الرجل وخال أيضا ، أي تكبّر . وأحبط عمله : أبطل ثوابه ، وقد حبط العمل حَبْطاً بالتسكين وحُبوطاً . والمتكلّمون يسمُّون إبطال الثواب إحباطاً ، وإبطال العقاب تكفيرا . وجَهْده بفتح الجيم : اجتهاده وجِدّه ، ووصفه بقوله : «الجَهِيد» أي المستقصى ، من قولهم : مرعى جَهِيد ، أي قد جَهده المال الراعي واستقصى رَعْيه .
وكلامه عليه السلام يدلّ على أنّه كان يذهب إلى أنّ إبليس من الملائكة لقوله : «أخرج منها مَلكاً» . والهوادة : الموادعة والمصالحة ، يقول : إن اللّه تعالى خلق آدم من طين ، ولو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف أو من الطيب الذي يعبق لَفَعل ، ولو فعل لهال الملائكة أمرُه وخضعوا له ، فصار الابتلاء والامتحان والتكليف بالسّجود له خفيفاً عليهم ، لعظمته في نفوسهم ، فلم يستحقُّوا ثواب العمل الشاقّ ، وهذا يدلُّ على أنّ الملائكة تشمّ الرائحة كما نشمّها نحن ، ولكنّ اللّه تعالى يبتلي عباده بأُمور يجهلون أصلها اختبارا لهم .
فإن قلت : ما معنى قوله عليه السلام : «تمييزا بالاختبار لهم» .
قلت : لأنّه ميّزهم عن غيرهم من مخلوقاته ، كالحيوانات العُجْم ، وأبانهم عنهم ، وفَضّلهم عليهم بالتّكليف والامتحان .
قال : «ونفياً للاستكبار عنهم» ؛ لأنّ العبادات خضوع وخشوع وذلّة ، ففيها نفي الخُيَلاء والتكبّر عن فاعليها ، فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عَبَد اللّه ستة آلاف سنَة ؛ لا يُدْرَى أمِنْ سِنِي الدنيا أم من سني الآخرة ! وهذا يدلّ على أنه قد سمع فيه نصّا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلممجملاً لم يفسّره له ، أو فسَّره له خاصة ، ولم يفسّره أميرُ المؤمنين عليه السلام للناس لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة .
فإن قلت : قوله : «لا يُدْرَى» على ما لم يسمّ فاعله يقتضي أنه هو لا يدرِي!
قلت : إنه لا يقتضي ذلك ، ويكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله الأكثرون .
واعلم أنّ كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل يطابقُ مذهبَ أصحابنا في أنّ الجنّة لا يدخلها ذو معصية ، ألا تسمع قوله : «فمن بَعْد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته ! كَلاّ ، ما كان اللّه ليُدخِل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملَكاً ، إنّ حكمه في أهل السماء والأرض لواحد» .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 250786
صفحه از 800
پرینت  ارسال به