105
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

سهامِه أشدّ . قوله : «ورماكم من مكان قريب» ؛ لأنّه كما جاء في الحديث : «يجري من ابن آدم مجرى الدم ، ويخالط القلب» ، ولا شيء أقرب من ذلك . والباء في قوله : «بما أغويتَنِي» متعلّق بفعل محذوف تقديره : أجازيك بما أغويتَني تزييني لهم القبيح ، فـ «ما» على هذا مصدريّة ، أي أجازيك بإغوائك لي تزييني لهم القبيح ، فحذف المفعول . ويجوز أن تكون الباء قَسما ، كأنّه أقسم بإغوائه إياه ليزيِّنَنّ لهم .
فإن قلت : وأيّ معنى في أن يقسم بإغوائه ؟ وهل هذا مما يقسم به!
قلت : نعم ، لأنّه ليس إغواء اللّه تعالى إيّاه خلْق الغَيّ والضلال في قلبه ، بل تكليفه إيّاه السّجود الذي وقع الغيّ عنده من الشيطان ، لامن اللّه ، فصار حيث وقع عنده ، كأنه موجب عنه ، فنسب إلى البارئ ، والتّكليف تعريض للثّواب ولذّة الأبد ، فكان جديراً أن يقسم به .
قوله عليه السلام : «قَذْفا بغيْبٍ بعيد» ، أي قال إبليس هذا القول قَذْفا بغيب بعيد ، والعرب تقول للشيء المتوهّم على بعد : هَذَا قَذْفٌ بغيب بعيد ، والقذفُ في الأصل : رَمْي الحجر وأشباهه ، والغيْب الأمر الغائب ، وهذه اللفظة من الألفاظ القرآنية ، قال اللّه تعالى في كفّار قريش : «وَيَقْذِفُونَ بِالغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ»۱ ، أي يقولون : هذا سِحْر ، أو هذا من تعليم أهل الكتاب ، أو هذه كهانة ، وغير ذلك ممّا كانوا يرمُونه عليه الصلاة والسلام به . وانتصب « قَذْفا» على المصدر الواقع موقع الحال ، وكذلك «رَجْما» .
قوله : «صدّقه به أبناء الحميّة» ، موضع «صدّقه» جرّ ؛ لأنّه صفة «ظنّ» ، وقد روي : «صدّقه أبناءُ الحميّة» من غير ذكر الجارّ والمجرور ، ومَنْ رواه بالجارّ والمجرور كان معناه : صدقه في ذلك الظن أبناء الحميّة ، فأقام الباء مقام «في» . «حتى إذا انقادت له الجامِحة منكم» ، أي الأنفس الجامحة أو الأخلاق الجامحة . «فنَجمت فيه الحال» ، أي ظهرت ، وقد روي : « فنجمت الحال من السرّ الخفيّ» من غير ذكر الجار والمجرور ، ومن رواه بالجارّ والمجرور فالمعنى : فنجمت الحال في هذا الشأن المذكور بينه وبينكم من الخفاء إلى الجَلاء . واستفحل سلطانه : قويَ واشتدّ وصار فَحْلاً ، واستفحل جواب قوله : « حتى إذا» . دلف بجنوده : تقدّم بهم . والوَلجات : جمع ولَجَة بالتحريك ، وهي موضع ، أو كهف يستتِر فيه المارّة من مطر أو غيره . وأقحموكم : أدخلوكم . والورْطة : الهلَكة .

1.سورة سبأ ۵۳ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
104

وَاعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُؤُوسِكُمْ ، وَإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحَتْ أَقْدَامِكُمْ ، وَخَلْعَ التَّكَـبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ ؛ وَاتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ ؛ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَأَعْوَاناً ، وَرَجِلاً وَفُرْسَاناً ، وَلاَ تَكُونُوا كالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الحَسَبِ ، وَقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ ، وَنَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ ؛ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللّهُ بِهِ النَّدَامَةَ ، وَأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

الشّرْحُ:

موضع «أن يُعدِيَكم» نصب على البدَل من «عدوّ اللّه » . والعَدْوَى : ما يُعدِي من جَرَبٍ أو غيره ، أعدى فلانٌ فلاناً من خُلُقه أو من علّته ، وهو مجاوزته من صاحبه إلى غيره . وأمير المؤمنين عليه السلام حذّر المكلّفين من أن يتعلّموا من إبليس الكِبْرَ والحميّة ، وشبّه تعلّمهم ذلك منه بالعَدْوَى لاشتراك الأمريْن في الانتقال من أحدِ الشّخْصين إلى الآخر .
قوله عليه السلام : «يستفزّكم» أي يستخفّكم ، وهو من ألفاظ القرآن : «وَاستَفْزِزْ مَنِ استَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ»۱ ، أي أزعجه واستخفّه وأطِرْ قلبَه . والخيل : الخيّالة ، ومنه الحديث : «يا خَيْلَ اللّهِ ارْكَبِي» . والرَّجْل : اسم جَمْع لراجل ، كَركْب اسم جمع لراكِبٍ ، وصَحْب : اسم جمع لصاحبٍ ، وهذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز : «وَأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ» وقرئ «ورَجِلِك»۲ بكسر الجيم على أن «فِعلاً» بالكسر بمعنى فاعل نحو تَعِب وتَاعِب .
فإن قلت : فهل لإبليس خيل تركبها جنده؟
قلت : يجوز أن يكون ذلك ، وقد فسّره قوم بهذا . والصحيح أنه كلام خرج مخرج المثَل ، شبّهت حاله في تسلّطه على بني آدم بمن يُغِير على قوم بخيله ورجله فيستأصلهم . وقيل : بصوتك، أي بدعائك إلى القبيح. وخيله ورجله: كلّ ماش وراكب من أهل الفساد من بني آدم.
وفوّقت السهم ، جعلت له فُوقا ، وهو موضع الوَتر ، وهذا كناية عن الاستعداد . وقوله : «وأغرق إليكُمْ بالنَّزْع» ، أي استوفى مدّ القوس وبالغ في نَزْعِها ليكون مرماه أبعدَ ، ووقعُ

1.سورة الإسراء ۶۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 250745
صفحه از 800
پرینت  ارسال به