109
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

هاهنا عن التواضع للرؤساء ، الذين تكبَّروا عن حسبهم ، أي جهلوا أنفسهم ، ولم يفكّروا في أصلهم من النُّطَف المستقذَرة من الطين المنتن ، قال الشاعر :

ما بال من أوّله نُطْفَةٌوجيفةٌ آخرهُ يَفْخَرُ
قوله عليه السلام : «وألقوا الْهَجِينةَ على ربهم» روي «الهَجِينة» على «فَعِيلة» ، كالطبيعة والخليقة ، وروي «الهُجْنَة» على «فُعْلة» كالمضغة واللُّقمة ، والمراد بهما الاستهجان ، من قولك : هو يهجّن كذا ، أي يقبّحه ، ويستهجنه أي يستقبحه . أن نسبوا ما في الأنساب من القبح بزعمهم إلى ربّهم ، مثل أن يقولوا للرجل : أنت عجميّ ونحن عرب ، فإنّ هذا ليس إلى الإنسان ، بل هو إلى اللّه تعالى ، فأيّ ذنب له فيه ! «وجاحدوا اللّه » ، أي كابروه وأنكروا صنعَه إليهم . وآساس بالمد : جمع أساس . واعتزاء الجاهلية : قولهم : يا لَفلان ! فلا تكونوا لنعمة اللّه أضداداً ؛ لأنّ البغيَ والكبْر يقتضيان زوالَ النعمة وتبدّلها بالنقمة . قوله : «ولا تطيعوا الأدعياء» ، مراده هاهنا بالأدعياء الذين ينتحلون الإسلام ويبطنون النفاق . ثم وصفهم فقال : «الذين شربتم بصفوِكم كدَرَهم» ، أي شربتم كدَرَهم مستبدلين ذلك بصفوكم . ويروى : «الذين ضربتم» ، أي مزجتم . ويروى : « شَرَيْتُم» ، أي بعتم واستبدلتم . والأحلاس : جمع حِلْس ، وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له ، فقيل لكل ملازم أمر : هو حِلْس ذلك الأمر . والتَّرجمان ، بفتح التاء : هو الّذِي يفسّر لساناً بلسان غيره ، وقد تُضَمّ التاء . ويروى : « ونثّا في أسماعكم » من نَثّ الحديث ، أي أفشاه .

الأصْلُ:

0.فَلَوْ رَخَّصَ اللّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنبِيَائِهِ ؛ وَلكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ ، وَرَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ ، فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ ، وَعَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ ، وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَكَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ ، قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللّهُ بِالْمَخْمَصَةِ ، وَابْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ ، وَامْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ ، وَمَحَّصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ .
فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَالسُّخْطَ بِالمَالِ وَالْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ ، وَالاِْخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَالاِقْتَارِ ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى : «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
108

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللّهِ وَصَوْلاَتِهِ ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ ، وَمصَارِعِ جُنُوبِهِمْ ، وَاسْتَعِيذُوا بِاللّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ .

الشّرْحُ:

أمعنتُم في البغي : بالغتم فيه ، من أمعن في الأرض ، أي ذهب فيها بعيدا . ومصارحة للّه ، أي مكاشفة . والمناصبة : المعاداة . وملاقح الشنآن ، أن ملاقح هاهنا جمع مَلْقح وهو المصدر ، من لَقَحت كضربت مضرباً وشربت مشربا . ويجوز فتح النون من الشنآن وتسكينها ؛ وهو البغض . ومنافخ الشيطان : جمع مَنْفَخ ، وهو مصدر أيضا ، من نفخ ، ونَفْخ الشيطان ونَفْثه واحد ، وهو وسوسته وتسويله ، ويقال للمتطاول إلى ما ليس له : قد نفخ الشيطان فيأنفه .
قوله : وأعنقوا : أصرعوا ، وفرس مِعْناق ، والسَّيْر العَنَق . والحنادس : الظلَم . والمهاوي : جمع مَهْواة بالفتح ؛ وهي الهُوَّة يتردّى الصيد فيها ، وقد تهاوَى الصَّيْد في المهواة ، إذا سقط بعضه في أثر بعض .
قوله عليه السلام : «ذللاً عن سياقه» ، انتصب على الحال ، جمع ذَلُول ، وهو السهل المقادة ، وهو حال من الضمير في «أعنقوا» ، أي أسرعوا منقادين لسوْقه إياهم . وسُلُساً : جمع سَلِس ، وهو السَّهْل أيضاً .
قوله عليه السلام : «أمرا» منصوب بتقدير فعل ، أي اعتمدوا أمرا ، «وكبرا» ، معطوف عليه ، أو ينصب «كبراً» على المصدر بأن يكون اسما واقعا موقعه ، كالعطاء موضع الإعطاء .
قوله عليه السلام : «تشابهت القلوب فيه» ، أي أنّ الحمية والفخر والكبر والعصبيّة ما زالت القلوب متشابهة متماثلة فيها . وتتابعت القُرون عليه : جمع قَرْن بالفَتْح ؛وهي الأُمّة من الناس . وكِبْراً تضايقت الصدور به ، أي كبر في الصدور حتى امتلأت به وضاقت عنه لكثرته . ثم أمر
بالحذر من طاعة الرؤساء أرباب الحمية ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : «إنَّا أطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَراءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ»۱ . وقد كان أمَرَ في الفصل الأوّل بالتّواضع للّه ، ونهى

1.سورة الأحزاب ۶۷ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 250721
صفحه از 800
پرینت  ارسال به