113
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

وَأَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً ؛ بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ ، وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ ، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ ، وَقُرىً مُنْقَطِعَةٍ ؛ لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ ، وَلاَ حَافِرٌ وَلاَ ظِلْفٌ . ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ ؛ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ ، وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ ، وَمَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ ، وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ ، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً يُهَلِّـلُونَ لِلّهِ حَوْلَهُ ، وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهمْ ، شُعْثاً غُبْراً لَهُ ، قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ، ابْتِلاَءً عَظِيماً ، وَامْتِحَاناً شَدِيداً ، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً ، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً ، جَعَلَهُ اللّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ ، وَوُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ .
وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ ، بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ ، وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ ، جَمَّ الْأَشْجَارِ ، دَانِيَ الِّثمارِ ، مُلْتَفَّ الْبُنَى ، مُتَّصِلَ الْقُرَى ، بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ ، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ ، وَأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ ، وَعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ ، وَزُرُعٍ نَاضِرَةٍ ، وَطُرُقٍ عَامِرَةٍ ، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ .
وَلَوْ كَانَ الإسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا ، وَالْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا ، بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ ، وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، وَنُورٍ وَضِيَاءٍ ، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ الْنَّاسِ .
وَلكِنَّ اللّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَـبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَلِيَجْعَلَ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ .

الشّرْحُ:

كانت المثوبة ، أي الثواب . وأجزل : أكثر ، والجزيل : العظيم ، وعطاء جَزْل وجَزِيل ، والجمع جزال ، وقد أجزلت له من العطاء ، أي أكثرت . وجعله للناس قياماً ، أي عماداً ، وفلان قيام


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
112

الاِسْتِكْبَارِ ، وَلآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً ، وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً ؛ وَلكِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الاِتِّبَاعُ لرُسُلِهِ ، وَالْتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ ، وَالْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ ، وَالاِسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ ، وَالاِسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ ؛ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً ، لاَ يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ .

الشّرْحُ:

تمدّ نحوه أعناق الرجال ، أي لعظمته ؛ أي يؤمّله المؤمّلون ويرجوه الراجون ، وكلّ مَنْ أمّل شيئا فقد طَمح ببصره إليه معنىً لا صورة ، فكنَى عن ذلك بمدّ العنق . وتُشدّ إليه عُقَد الرحال : يسافر أربابُ الرغبات إليه ، يقول : لو كانَ الأنبياء ملوكا ذوي بأس وقَهْر لم يمكن إيمان الخلق وانقيادهم إليهم ؛ لأنّ الإيمان في نفسه واجب عقلاً ، بل كان لرهبة لهم أو رغبة فيهم ، فكانت النيّات مشتركة .
وكذلك تفسير قوله : «والحسنات مقتسمة» ، قال : ولا يجوز أن تكون طاعة اللّه تعالى تعلو إلاّ لكونها طاعة له لا غير ، ولا يجوز أن يشوبها ويخالطها من غيرها شائبة .
فإن قلت : ما معنى قوله : «لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار ، وأبعد لهم من الاستكبار»؟
قلت : أي لو كان الأنبياء كالملوك في السَّطْوة والبطش ؛ لكان المكلّف لا يشقّ عليه الاعتبار والانزجار عن القبائح مشقّتَه عليه إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف ، وكان بُعدُ المكلفين عن الاستكبار والبغي لخوف السّيف والتأديب أعظمَ من بعدهم عنها إذا تركوهما لوجه قبحهما ، فكان يكون ثواب المكلّف ؛ إمّا ساقطاً ، وإمّا ناقصا .

الأصْلُ:

۰.وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى والاِخْتِبَارُ أَعْظَمَ ، كَانَتِ الْمُثُوبَةُ وَالْجَزَاءُ أَجْزَلَ ؛ أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ـ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ ـ إِلَى الآخِرِينَ مِنْ هذا الْعَالَمِ ؛ بَأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تنْفَعُ ، وَلاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَسْمَعُ ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ، ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً ، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً ،

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 250652
صفحه از 800
پرینت  ارسال به