117
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

وكسرها وتذليلها . وعتاق الوجوه : كرائمها . وإلصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين والساقين تصاغرا يوجب الخشوع والاستسلام ، والجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن يقتضي زوال الأَشَر والبطَر ، ويوجب مذلّة النفس وقمْعها عن الانهماك في الشهوات ، وما في الزكاة من صَرْف فواضل المكاسب إلى أهل الفقر والمسكنة يوجبُ تطهيرَ النّفوس والأموال ومواساة أرباب الحاجات بما تسمحُ به النفوس من الأموال ، وعاصم لهم من السرقات وارتكاب المنكرات ، ففي ذلك كلّه دفع مكايد الشيطان .
وتخفيض القلوب : حطها عن الاعتلاء والتّيه . والخُيَلاء : التكبّر . والمسكنة : أشدّ الفقر في أظهر الرّأيين . والقَمْع : القهر . والنَّوَاجم : جمع ناجمة ، وهي ما يظهر ويطلع من الكبر وغيره . والقَدْع ، بالدال المهملة : الكفّ ، قدعت الفرس وكبحته باللجام ، أي كففته . والطوالع ، كالنواجم .

الأصْلُ:

۰.وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ ، أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ . أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ ، فَقَالَ : أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ . وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ ، فتَعَصَّبُوا لاِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ ، فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ .
فَإِنْ كَانَ لاَبُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ ، وَمَحَامِدِ الْأَفْعَالِ ، وَمَحَاسِنِ الْأُمُورِ ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَيَعَاسِيبِ الْقَبَائِلِ ؛ بِالْأَخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ ، وَالْأَحْلاَمِ الْعَظِيمَةِ ، وَالْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ ، وَالاْثَارِ الْمَحْمُودَةِ .
فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ ؛ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ ، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ ، وَالْأَخْذِ بِالْفَضْلِ ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ ، وَالاْءِعْظَامِ لِلْقَتْلِ ، وَالاْءِنْصَافِ لِلْخَلْقِ ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
116

الْقَاتِلَةِ ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً ، وَلاَ تُشْوِي أَحَداً ، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ ، وَلاَ مُقِلاًّ فِي طِمْرِهِ .
وَعَنْ ذلِكَ مَا حَرَسَ اللّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ ، تسْكِيناً لَأَطْرَافِهِمْ ، وَتَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ ، وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ ، وَلِمَا فِي ذلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً ، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً ، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالمُتونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً ؛ مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ .
انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ ، وَقَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ !

الشّرْحُ:

بلدة وخِمة ووخيمة : بيّنة الوخامة ، أي وبيئة . مصْيَدَة إبليس ، بسكون الصاد وفتح الياء : آلته الّتي يصطاد بها . وتُساور قلوب الرجال : تواثُبها ، وسار إليه يَسُور ، أي وثب ، والمصدَر السَّوْر ، ومصدر «تَسَاور» المساورة ، ويقال : إنّ لغضبه سَوْرة ، وهو سَوّار ، أيْ وثّاب معربد ، وسَوْرة الشراب : وثوبه في الرأس ، وكذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام . وما تكدِي : ما تردّ عن تأْثيرها ، من قولك : أكدى حافر الفرس ، إذا بلغ الكُدْية وهي الأرض الصُّلْبة ، فلا يمكنه أنْ يحفر . ولا تُشوِي أحدا : لا تخطئ المَقْتل وتصيب غيره ؛ وهو الشَّوَى ، والشوى : الأطراد ، كاليد والرجل . قال : لا تردّ مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه ، ولا عن فقير لطمره ، والطّمْر : الثوب الخَلق .
و «ما» في قوله : «وعن ذلك ما حرس اللّه » زائدة مؤكدة ، أي عن هذا المكايد الّتي هي البغْي والظّلم والكِبر حَرَس اللّه عباده ، فـ «عن» متعلقة بـ « حرس» .
ثم بيّن عليه السلام الحكمة في العبادات ، فقال : إنه تعالى حَرَس عباده بالصلوات التي افترضها عليهم من تلك المكايد ، وكذلك بالزكاة والصَّوم ليسكِّن أطرافهم ، ويخشّع أبصارهم ، فجعل التسكين والتخشيع عذرا وعلّة للحراسة ، ونصب اللفظات على أنّها مفعول له . ثم علل السكُون والخشوع الذي هو علّة الحراسة لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب ، فصار ذلك علّة العلة . قال : وذلك لأنّ تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا يوجب هَضْم النفس

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 250202
صفحه از 800
پرینت  ارسال به