151
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

فأمّا قوله عليه السلام : «وقد أكثرتَ في قَتَلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثمّ حاكم القوم إليَّ أحملك وإيّاهم على كتاب اللّه » ، فيجب أنْ يُذكر في شرحه ما يقول المتكلمون في هذه الوقعة . قال أصحابنا المعتزلة رحمهم اللّه : هذا الكلام حقّ وصواب ؛ لأنّ أولياء الدّم يجب أن يبايعوا الإمام ويدخلوا تحت طاعته ، ثم يرفعوا خصومهم إليه ، فإنْ حَكَم بالحقّ استديمت إمامته ، وإن حادَ عن الحق انقضت خلافته ، وأولياءُ عثمان الذين هم بنُوه لم يبايعوا عليّا عليه السلام ، ولا دَخَلوا تحت طاعته ثَمّ ، وكذلك معاويةُ ابنُ عمّ عثمان لم يبايع ولا أطاع ؛ فمطالبتهم له بأن يقتصّ لهم من قاتلي عثمان قبل بيعتهم إياه وطاعتهم له ظلم منهم وعدوان .
فإن قلت : هب أنّ القصاص من قتلة عثمان موقوفٌ على ما ذكره عليه السلام ؛ أما كان يجبُ عليه لا من طريق القصاص أن ينهى عن المنكر ؟ وأنتم تذهبون إلى أنّ النّهي عن المنكر واجب على مَنْ هو سُوقة ، فكيف على الإمام الأعظم؟
قلت : هذا غير وارد هاهنا ؛ لأنّ النهي عن المنكر إنّما يجب قبل وقوع المنكَر ، لكيلا يقع ، فإذا وقع المنكر ، فأيّ نهي يكونُ عنه ! وقد نهى عليّ عليه السلام أهلَ مصر وغيرَهم عن قتلِ عثمان قبل قتلِه مرارا ، ونابذهم بيده ولسانه وبأولاده فلم يغنِ شيئا ، وتفاقم الأمر حتى قُتِل ۱ ؛ ولا يجب بعد القتل إلاّ القصاص ، فإذا امتنع أولياءُ الدم من طاعة الإمام لم يجبْ عليه أن يقتصَّ من القاتلين ؛ لأنّ القصاص حقّهم وقد سقط ببغيهم على الإمام وخروجهم عن طاعته . وقد قلنا نحن فيما تقدّم : إنّ القصاص إنّما يجب على مَنْ باشر القتل ؛ والذين باشروا قتل عثمان قُتِلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان ، والذين كان معاوية يطالبُهم بدم عثمان لم يباشروا القتل ، وإنّما كثّروا السّواد وحَصَروا عثمان في الدار ، وأجلبوا عليه وشتموه وتوعّدوه ، ومنهم مَنْ تسوّر عليه داره ولم ينزل إليه ، ومنهم منْ نزل فحضر محضر

1.عجبا لابن أبي الحديد ، فان الامام عليه السلام يقول : «ولتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه» ، وهو يقول : نهى علي عليه السلام أهلَ مصر وغيرهم عن قتل عثمان ... ونابذهم بيده ولسانه وبأولاده ...» وقد تقدّم قول الإمام عليه السلام في خطبة (۳۰) في قضية قتل عثمان : « لو أمرت به (القتل) لكنتُ قاتلاً ، أو نهيت عنه لكنت ناصراً ... » ولماذا لم يجب الامام عليه السلام معاوية بذلك اِذا كان قد نابذ ودافع ليدفع عن نفسه التهمة بقتل عثمان ؟ ولكن اليد الأموية هي وضعت أخبار الدفاع عن عثمان حتى لا يكون خليفتهم مهدور الدم بعد أن استأثر فأساء الأثرةَ ، ووضعت أخبارا في الطعن بالإمام عليه السلام حتى يستقيم لهم الأمر .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
150

واعلم أن هذا الفصلَ دالّ بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة كما يذكره أصحابنا المتكلّمون ؛ لأنّه احتجّ على معاوية ببيعة أهل الحلّ والعَقْد له ، ولم يراعِ في ذلك اجماعَ المسلمين كلّهم ، وقياسه على بيعة أهل الحلّ والعقد لأبي بكر ، فإنه ما رُوعِي فيها إجماع المسلمين ؛ لأنّ سعد بن عُبادة لم يبايعْ ، ولا أحدٌ من أهل بيته وولده ، ولأنّ عليّا وبني هاشم ومَنِ انضوَى إليهم لم يبايعوا في مبدأ الأمر ، وامتنعوا ؛ ولم يتوقّف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر وتنفيذ أحكامه على بيعتهم ، وهذا دليل على صحة الاختيار وكونه طريقا إلى الإمامة ، وأنه لا يقدح في إمامته عليه السلام امتناعُ معاوية من البيعة وأهل الشام ؛ فأما الإماميَّة فتحملُ هذا الكتابَ منه عليه السلام على التقيّة ، وتقول : إنه ما كان يمكنه ، أن يصرّح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال ، ويقول له : أنا منصوص عليّ من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمومعهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل ، فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين ، وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة ، وهذا القول من الإمامية دعوى ، لو عضّدها دليل ، لوجب أن يقال بها ، ويصار إليها ؛ ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأُصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية ۱ .

1.أقول : أراد الإمام علي عليه السلام باحتجاجه ( بالإجماع ) إلزام الخصم به ؛ لأنّهم أثبتوا به خلافة أبي بكر وعمر وعثمان . والإمام عليه السلام إنّما لم يتمسّك بالنّص ـ مع ثبوته بالتواتر ـ اعتقاداً منه عليه السلام أن سوف يكذّب ، أو يؤول النصّ وفق نظرية قريش في الخلافة فيكون ذريعة بيد المتخلفين عن اللحاق بالإمام عليه السلام والذين سايروا الوضع القائم في مخالفة النص في يوم الغدير ، وسيجد أولئك فسحة من محاسبة الضمير بمخالفة النبي صلى الله عليه و آله وسلم بسبب التأويل بما ينسجم وخطة قريش ، فأهمله ولم يحتج به ، فهُجر الاحتجاج بالنصِّ منذ أيام السقيفة ، فكيف يلتفتون إليه بعد تقادم العهد وتطاول الأيام ، ولما ملك الإمام عليه السلام قياد الأمر ، واستتب له الوضع ، قام فاحتجّ بحديث الغدير في أكثر من مناسبة ، كان أشهرها في رحبة مسجد الكوفة بعد عودته من حرب الجمل . وأمّا معاوية فقد كتب إلى الإمام عليه السلام : أنّه ليس لك علينا بيعة ؛ لأنّا لم نبايعك ، وليس لك علينا ولاية ولا طاعة ، ولكنّنا نقتاد من قتلة عثمان ثمّ نردّ الأمر شورى بين المسلمين فكان جواب الإمام عليه السلام جدليا محضا ، لا يريد به إلاّ إلزام ما يلتزم به الخصم ، ليقطع تشنيعه ومزاعمه ، ولذا قال له عليه السلام : إنّ البيعة التي أوجبت لأبي بكر وعمر وعثمان الولاية على من حضر وغاب ـ على معتقدكم ـ هي حاصلة لي ؛ فإنّه بايعني القوم الذين بايعوهم . ( والشورى ) التي تعتقدونها وتحتجون بها طريقا للإمامة للمهاجرين والأنصار فقط ؛ وليس لغيرهم ـ من أمثالك من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم ـ حق الردّ أو النظر فيما أبرموا . وحينئذٍ فلا حاجة لحمل كلام أمير المؤمنين على التقيّة كما ذكر الشارح الذي يؤوّل النصوص بما يهوى أو بما ينسجم ومذهب أصحابه .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213108
صفحه از 800
پرینت  ارسال به