199
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

الضلال . و «ذهّاب» فَعّال ؛ للتكثير ؛ ويقال : أرض متيهة ، مِثلُ معيشةٍ ، أي يُتاهُ فيها .
قال عليه السلام : «روّاغ عن القَصْد» ، أي تترك ما يلزمك فعلُه وتعدل عما يجب عليك أن تجيب عنه إلى حديث الصحابة ، وما جرى بعد موت النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، ونحن إلى الكلام في غير هذا أحوَج إلى الكلام في البيعة وحَقْن الدِّماء والدخول تحتَ طاعةِ الإمام .
ثم قال : «ألا تَرَى غير مخبِر لك ، ولكن بنعمة اللّهِ أحدِّث» ، أي لستَ عندي أهْلاً لأنّ أُخبرك بذلك أيضا ، فإنّك تَعلَمه ، ومن يَعلم الشيء لاَيَجوزُ أن يُخبَر به ؛ ولكنْ أذكرُ ذلك لأنَّه تحدُّثٌ بنعمةِ اللّه علينا ، وقد أُمِرْنا بأن نحدِّث بنعمتِه سبحانه . «إنّ قوما استُشهدوا في سبيل اللّه » ، المراد هاهنا ، سيّد الشُّهداء حَمْزة رضى الله عنه ، وينبغي أن يُحمَل قولُ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فيه إنّه سيّد الشهداء على أنّه سيّد الشهداء في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأنّ عليّا عليه السلام مات شهيدا ؛ ولا يجوز أن يقال : حمزة سيّده ، بل هو سيّد المسلمين كلِّهم ، ولا خلافَ بين أصحابنا رحمهم اللّه أنّه أفضل من حمزةَ وجعفر رضي اللّه عنهما . قوله عليه السلام : «ولكلٍّ فَضْل» ، أي ولكلّ واحد من هؤلاء فَضْل لا يُجحَد . «أولا ترى أنّ قوما قُطِعت أيديهم» ، هذا إشارة إلى جعفر . «ولولا ما نهى اللّه عنه » ، هذا إشارة إلى نفسِه عليه السلام . «ولا تمجُّها آذانُ السامعين» ، أي لا تقذِفها ، يقالُ : مَجَّ الرجلَ مِن فيه ، أي قذفه .
قوله عليه السلام «فدع عنك من مالت به الرَّمِيّة» ، يقال للصيد : يرمى هذه الرميّة ، وهي « فعيلة» بمعنى مفْعولة ، والأصل في مِثلِها ألاّ تلحَقها الهاء ، نحو كفّ خضيب ، وعين كحِيل ، إلاّ أنّهم أجْرَوها مجرَى الأسماء لا النّعوت ، كالقَصيدة والقَطيعة . والمعنى : دَعْ ذكرَ من مالَ إلى الدنيا ومالتْ به ، أي أمالتْه إليها .
فإن قلتَ : فهل هذا إشارة إلى أبي بكر وعمرَ؟
قلت : يَنبغي أن ينزَّه أميرُ المؤمنين عليه السلام عن ذلك ، وأن تُصرَف هذه الكلمة إلى عثمانَ ، لأنّ معاويةَ ذكرَه في كتابه وقد أورَدْناه . وإذا أنصف الإنسانُ من نفسه عِلم أنّه عليه السلام لم يكن يذكرهما بما يذكر به عثمان ، فإن الحال بينه وبين عثمان كانت مضطربة جدّا ۱ .

1.إنّما ينزّه أمير المؤمنين عليه السلام عن ذكره لهما ، إذا ثبت بالدليل القاطع براءتهما من الميل إلى الدنيا ، كيف ؟ وقد ثبت ذلك دون أدنى شك ، أنّهم خالفا النصّ ميلاً إلى الدنيا ، وما يقال إنهما تركا الدنيا فإنما كان من أجل الدنيا فيكون تنزيهه عن ذكرهما إهمالاً لهما منه . والاّ فكما ذكر معاوية عثمان في كتابه ذكرهما فيه ، وكان أشار بذكرهما إغضابا له عليه السلام بما يكون أنشد من ذكر عثمان . فمعاوية كتب إليه عليه السلام إشارة من عمرو بن العاص : «فكان أفضلهم مرتبة ، وأعلاهم عند اللّه والمسلمين منزلة الخليفة الأول ، الذي جمع الكلمة ، ولمّ الدعوة ، وقاتل أهل الردة ، ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ومصّر الأمصار ، وأذل رقاب المشركين ... وما يوم المسلمين منك بواحد لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ، ورمت إفساد أمره وقعدت في بيتك ... ثم كرهت خلافة عمر وحسدته ، واستبطأت مدته ، وسررت بقتله وأظهرت الشماتة بمصابه ... إلى آخر الكتاب» . وأمّا قول ابن أبي الحديد : «أن تصرف هذه الكلمة إلى عثمان» فبعيد جدا ؛ لأنّ المذكور في رسالة معاوية لم يكن عثمان وحده كما هو واضح .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
198

«فذكرتَ أمْراً إن تَمّ اعتَزَلَك كله ، وإن نَقَص لم يَلْحَقْك ثَلمُهُ» .
* وما أنتَ من قيس فَتنبَح دونها *
هو معنى قولِ عليّ عليه السلام لمعاوية : «فذكرتَ أمْراً إن تمّ اعتَزلَك كلّه» .
قوله عليه السلام : «وما أنتَ والفاضلَ والمفضولَ» ، الرّواية المشهورةُ بالرّفع ، وقد رواها قوم بالنَصْب . ثم قال : «وما للطُّلقَاء وأبناءُ الطُّلَقاء» والتمييزَ النّصبُ هاهنا لا غير ، لأجل اللام في الطلقاء . ثم قال عليه السلام : بين المهاجرين الأوَّلين وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم ، هذا الكلامُ ينقُض ما يقول من يطعن في السَّلف ، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام أنكَرَ على معاوية تعرّضَه بالمفاضلة بين أعلام المهاجرين ، وأنّ قَدْرَ معاوية يصغر أن يُدخل نفسَه في مِثل ذلك .
قوله عليه السلام : «هيهات ، لقد حنَّ قِدْحٌ ليس منها» هذا مَثَلٌ يُضرَب لمن يُدخل نفسه بين قوم لَيس له أن يَدخُل بينهم ؛ وأصله القِداح من عودٍ واحد يجعَل فيها قَدَح من غَيْر ذلك الخشَب ، فيصوّت بينها إذا أرادها المفِيض ، فذلك الصوتْ هو حنينُه . «وطفِق يحكُم فيها مَنْ عليه الحُكم لها» ، أي وطفِق يحكُم في هذه القصّة أو في هذه القضيّة مَنْ يجب أن يكون الحكْم لها عليه لا له فيها ؛ ويجوز أن يكون الضمير يرجع إلى الطّبقات . ثم قال : «ألا تَربَع أيّها الإنسان على ظلْعك !» ، أي ألا تَرْفُق بنفْسك وتَكَفّ ، ولا تحمِل عليها ما لا تطيقُه ، والظلْع : مَصدَرُ ظَلَع البعيرُ يظلَع أي غمز في مشْيه . «وتعرِف قُصورَ ذرْعك» ، أصل الذرْع بَسْط اليد ؛ يقال : ضِقتُ به ذرْعا ، أي ضاق ذرْعي به . فنَقلوا الاسمَ من الفاعلية فجعلوه منصوبا على التمييز ؛ كقولهم : طبت به نفسا . «وتتأخّر حيث أخّرك القَدر» ، مِثل قولِك : ضع نفسَك حيث وضعَها اللّه ؛ يقال ذلك لمنْ يرفع نفسَه فوق استحقاقه .
ثم قال : «فما عليك غَلبة المغلوب ، ولا عليك ظفرُ الظّافر» . يقول : وما الّذي أدخَلكَ بيني وبين أبي بكر وعمرَ ، وأنتَ من بني أُميّة ، لستَ هاشميّا ولا تيميّا ولا عدويّا هذا فيما يرجع إلى أنسابنا ، ولستَ مُهاجِرا ولا ذا قَدَم في الإسلام فتزاحِم المهاجرين وأربابَ السّوابق بأعمالِك واجتهادك ، فإذَنْ لا يضرّك غَلَبة الغالب منّها ، ولا يسرّك ظفر الظافر . «وإنّك لذهّابٌ في التّيه ، روّاغ عن القَصْد» ، يحتمل قوله عليه السلام في التِّيه معنَييْن : أحدُهما بمعنى الكِبر ، والآخر التِّيه ، من قولك : تاه فلان في البَيْداء . ومنه قوله تعالى : «فإنّها مُحرَّمة عَلَيْهم أرْبعين سَنةً يتيهُون في الأرض»۱ ؛ وهذا الثاني أحسَنُ يقول : إنّك شديد الإيغال في

1.سورة المائدة : ۲۶ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 218175
صفحه از 800
پرینت  ارسال به