209
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

أنّ هذا الهم صدقني عن الصفة التي يجب أن يكون رأيي عليها وتلك الصفة هي ألاّ يفكر في أمر شيء من الموجودات أصلاً إلاّ اللّه تعالى ونفسه ؛ وفوق هذه الطبقة طبقة أُخرى جداً وهي ألاّ تفكر في شيء قطّ إلاّ في اللّه وحده ، وفوق هذه الطبقة طبقة أُخرى تجلّ عن الذكر والتفسير ، ولا تصلح لأحد من المخلوقين إلا النادر الشاذ ، وقد ذكرها هو فيما سبق ، وهو ألاّ يفكر في شيء أصلاً ، لا في المخلوق ولا في الخالق ؛ لأنّه قد قارب أن يتّحد بالخالق ، ويستغني عن الفكر فيه .
قوله : «وصرفني عن هواي» ، أي عن هواي وفكري في تدبير الخلافة وسياسة الرعيّة والقيام بما يقوم به الأئمة . «وصرّح لي محض أمري» ، يروى بنصب محض «ورفعه» ؛ فمن نصب فتقديره : عن محض أمري ؛ فلمَّا حذف الجار نصب ، ومن رفع جعله فاعلاً . وصرّح : كشف أو انكشف . «فأَفضى به إلى كذا» ، ليس بمعنى أنه قد كان من قبل يمازج جدّه باللعب ؛ بل المعنى أنّ همومه الأُولى قد كانت بحيث يمكن أن يتخلّلها وقت راحة أو دُعابة لا يخرج بها عن الحق ، كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يمزح ولا يقول إلاّ حقا ، فالآن قد حدث عنده همّ لا يمكن أن يتخلّله من ذلك شيء أصلاً . وكذلك القول في قوله : «وصدق لا يشوبه كذب» أي لا يمكن أن يشوبه كذب ؛ وليس المراد بالصدق والكذب هاهنا مفهومهما المشهورين ؛ بل هو من قولهم : صدَقونا اللقاء ، ومن قولهم : حمل عليهم فما كذب ! أي أفضى به هذا الهمّ إلى أن صدقتني الدنيا حربها ، كأنه جعل نفسه محاربا للدنيا ، أي صدقتني الدنيا حربها ولم تكذب ، أي لم تجبن ولم تَخُنْ .
أخبر عن شدّة اتّحاد ولده به ، فقال وجدتك بعضي ، قال الشاعر :

وإنّما أولادُنا بينناأكبادُنا تمشي على الأرض
لو هبّت الرّيح على بعضهمْلامتنعتْ عيني من الغَمْض

الأصْلُ:

۰.فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللّهِ - أَيْ بُنيَّ - وَلُزُومِ أَمْرِهِ ، وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ ، وَالاْعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ .وَأَيُّ سَبَبٍ أَوْثقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنكَ وَبَيْنَ اللّهِ ؛ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ !
أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
208

ـ دُونَ هُمُومِ النَّاس ـ هَمُّ نَفْسِي ، فَصَدّقَنِي رَأيِي ، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ ، وَصَرَّحَ لِيمَحْضُ أَمْرِي ، فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لاَ يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ ، وَصِدْقٍ لاَ يَشُوبُهُ كَذِبٌ . وَوَجَدْتُكَ بَعْضِي ، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي ، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي ، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي ، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِيني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي ، فكَتَبْتُ إِليْكَ كِتَابِي مُسْتظْهِراً بِهِ إِنْ أَنا بَقِيْتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ .

الشّرْحُ:

يزعني : يكفّني ويصدّني ، وزعتُ فلانا ، ولابدّ للناس من وَزَعة .
وسِوى ، لفظة تقصَر إذا كسرت سينها ، وتمدّ إذا فتحتها ؛ وهي هاهنا : بمعنى غير . ومَنْ قبلها بمعنى شيء منكّر . والتقدير غير ذكر إنسان سواي ، ويجوز أن تكون «مَنْ» موصولة ، وقد حذف أحد جزأيِ الصلة ، والتقدير عن ذكر الذي هو غيري ، كما قالوا في : «لَنَنْزِعَنَّ منْ كُلِّ شِيعةٍ أيُّهُمْ أَشَدُّ» ، أي هو أشدّ . يقول عليه السلام : إن في ما قد بان لي من تنكّر الوقت وإدبار الدنيا وإقبال الآخرة شاغلاً لي عن الاهتمام ، بأحد غيري ، والاهتمام والفكر في أمر الولد وغيره ممن أخلفه ورائي .
ثم عاد فقال : إلاّ أنّ همّي بنفسي يقتضي اهتمامي بك ؛ لأنّك بعضي بل كلِّي ، فإن كان اهتمامي بنفسي يصرفني عن غيري لم تكن أنت داخلاً في جملة مَنْ يصرفني همّي بنفسي عنهم ؛ لأنّك لست غيري.
فإن قلت : أفهذا الهمّ حدَث لأمير المؤمنين عليه السلام الآن ، أو من قبل لم يكن عالما بأن الدنيا مدبرة ، والآخرة مقبلة؟
قلت : كلاّ بل لم يزل عالما عارفا بذلك ، ولكنه الآن تأكد وقوى ، بطريق علوّ السنّ وضعف القُوَى ، وهذا أمر يحصل للإنسان على سبيل الإيجاب ، لابدّ من حصوله لكلّ أحد ، وإن كان عالما بالحال من قبل ؛ ولكن ليس العِيان كالخبر .
قوله : «تفرّد بي دون هموم الناس همّ نفسي» ، أي دون الهموم التي قد كانت تعتريني لأجل أحوال الناس . فصدّقني رأيي ؛ يقال : صدقته كذا أي عن كذا ، وفي المثل : «صدقني سنّ بكره» ؛ لأنّه لما نفر قال له : هِدَعْ ، وهي كلمة يسكّن بها صغار الإبل إذا نفرت ؛ والمعنى

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 218407
صفحه از 800
پرینت  ارسال به