21
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

عُشْوة ، ويجوز بالضمّ والفَتْح . «وضربوا بهم في غَمْرة جهالة» ، أي وضربوا من ذكر هؤلاء الموتى في بحر جهلٍ ، والضرب هاهنا : استعارة ، أو يكون من الضّرب بمعنى السير ، كقوله تعالى : «وإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ»۱ ، أي خاضوا وسبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة ، وكلُّ هذا يرجع إلى معنى واحد ، وهو تسفيه رأي المفتخرين بالموتى ، والقاطعين الوقت بالتكاثر بهم ؛ إعراضاً عمّا يجب إنفاقه من العمر في الطاعة والعبادة .
ثم قال : لو سألوا عنهم ديارهم التي خلت منهم ، ويمكن أن يريد بالديار والربوع القبور . «لقالت : ذهبوا في الأرض ضُلاّلاً» ، أي هالكين ، ومنه قوله تعالى : «وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَديدٍ»۲ . «وذهبتم في أعقابهم» ، أي بعدهم جهالاً ؛ لغفلتكم وغروركم .
قوله عليه السلام : «تَطؤون في هامهم» ، أخذ هذا المعنى أبو العلاء المعرّي ، فقال :

خَفّفِ الوطْ ء ما أظنّ أديمَ الـأرْضِ إلاَّ مِنْ هَذِه الأجْسَادِ
رُبّ لحدٍ قَد صار لحدا مِراراضَاحكٍ من تزاحُم الأضْدَادِ
قوله : «وتستنبتون في أجسادهم» ، أي تزرعون النَّبات في أجسادهم ؛ وذلك لأنّ أديم الأرض الظاهر إذا كان من أبدان الموتى ، فالزّرع لا محالة يكون نابتا في الأجزاء التّرابية التي هي أبدان الحيوانات . وروي : «وتستثبتون» ، بالثاء ، أي وتنصبون الأشياء الثابتة كالعَمد والأساطين للأوطان في أجساد الموتى .
ثم قال : «وترتعون فيما لفظوا» ، لفَظتُ الشيء بالفتح : رميتُه من فمي ، ألفِظه بالكسر ، ويجوز أن يريد بذلك أنّكم تأكلون ما خلّفوه وتركوه . ويجوز أن يريد أنّكم تأكلون الفواكه التي تنبت في أجزاء ترابيّة خالطها الصديد الجاري من أفواههم .
ثم قال :«وتسكنون فيما خرّبوا» ، أي تسكنون في المساكن التي لم يعمروها بالذكر
والعبادة ، فكأنهم أخربوها في المعنى ، ثم سكنتم أنتم فيها بعدهم . ويجوز أن يريد أنّ كلّ دار عامرة قد كانت من قبل خرِبة ، وإنّما أخربها قوم بادوا وماتوا . ويجوز أن يريد بقوله : « وتسكنون فيما خربوا» ، وتسكنون في دورٍ فارقوها وأخلوْها ، فأطلقَ على الخلوّ والفراغ لفظ «الخراب » مجازاً . قوله : «وإنّما الأيّام بينكم وبينهم بواكٍ ونوائحُ عليكم» ، يريدأنّ

1.سورة النساء ۱۰۱ .

2.سورة السجدة ۱۰ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
20

الاعتبار . « وتناوشوهم من مكان بعيد» ، أي تناولوهم ، والمراد ذكروهم وتحدّثوا عنهم ؛ فكأنّهم تناولوهم ، وهذه اللفظة من ألفاظ القرآن العزيز : «وَقَالُوا آمنَّا بهِ وَأنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ»۱ ؛ وأنّى لهم تناولُ الإيمان حينئذٍ بعد فوات الأمر!

الأصْلُ:

۰.يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ ، وَحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ . وَلَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً ، أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً ، وَلَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ ، أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ .
لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ ، وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ . وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ ، وَالْرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ ، لَقَالَتْ : ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلاَّلاً ، وَذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً ، تَطَؤُونَ فِي هَامِهِمْ ، وَتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ ، وَتَرْتَعُونَ فِيَما لَفَظُوا ، وَتَسْكُنُونَ فِيَما خَرَّبُوا ؛ وَإِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَنَوَائِحُ عَلَيْكُمْ .
أُولئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ ، وَفُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ ، الَّذِينَ كَانتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ ، وَحَلَبَاتُ الْفَخْرِ ، مُلُوكاً وَسُوَقاً .

الشّرْحُ:

«يرتجعون منهم أجساداً» ، أي يذكرون آباءهم ، فكأنّهم ردّوهم إلى الدنيا ، وارتجعوهم من القبور . وخَوَتْ : خلت . قال : وهؤلاء الموتى أحقُّ بأن يكونوا عبرة وعظةً من أن يكونوا فخراً وشرفاً ، والمفتخرون بهم أولى بالهبوط إلى جانب الذلّة منهم بالقيام مقام العزّ . وتقول :
هذا أحْجَى من فلان ، أي أوْلَى وأجدر . والجناب : الفِناء .
ثم قال : «لقد نظروا إليهم بأبصار العَشْوة» ، أي لم ينظروا النّظر المفِضيَ إلى الرؤية ؛ لأنّ أبصارَهم ذات عَشْوة ، وهو مرض في العين ينقص به الإبصار ، وفي عين فلان عَشَاءٌ وعَشْوة بمعنىً ، ومنه قيل لكلّ أمرٍ ملتبس يركبه الرّاكب على غير بيان : أمر عَشْوة ، ومنه أوطأتني

1.سورة سبأ ۵۲ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213197
صفحه از 800
پرینت  ارسال به