215
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

الخوض في الأُمور الأصوليّة فنبّهه على أُمور يجرّه النظر وتأمّل الأدِلّة والشُّبُهات إليها دقيقة يُخافُ على الإنسان من الخوض فيها أن تضطرب عقيدته ، إلا أنه لم يجد به بدّا من تنبيهه على أُصول الديانة ، وإن كان كارها لتعريضه لخطر الشبهة ، فنبّهه على أُمور جملية غير مفصلة ، وأمره أن يلزم ذلك ولا يتجاوزه إلى غيره وأن يُمسك عما يشتبه عليه ، وسيأتي ذكر ذلك .

الأصْلُ:

۰.وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللّهِ وَالاْءقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللّهُ عَلَيْكَ ، وَالْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا ، وَالاْءِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا ، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذلِكَ دُونَ أَنْ تَعَْلَمَ كَمَا عَلِمُوا ؛ فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذلِكَ بَتَفَهُّمٍ وَتَعَلُّمٍ ، لاَ بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ ، وَعُلَقِ الْخُصُومَاتِ . وَابْدَأ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالاِسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ ، وَتَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ ، أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَةٍ ، فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ ، وَتَمَّ رَأيُكَ فَاجْتَمَعَ ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذلِكَ هَمّاً وَاحِداً ، فَانْظُرْ فِيَما فَسَّرْتُ لَكَ ؛ وَإِنْ أنت لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ ؛ وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ ، فَاعْلَمْ أنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ ، وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ ، وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ ، وَالاْءِمْسَاكُ عَنْ ذلِكَ أَمْثَلُ .

الشّرْحُ:

أمره أن يقتصر على القيام بالفرائض ، وأن يأخذ بسنّة السَّلف الصّالح من آبائه وأهل بيته ؛ فإنّهم لم يقتصروا على التقليد ؛ بل نظروا لأنفسهم ، وتأمّلوا الأدلة ، ثم رجعوا آخر الأمر إلى الأخذ بما عرفوا ، والإمساك عمّا لم يكلّفوا .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
214

الشّرْحُ:

هذا الفصل وما بعده يشعر بالنّهي عن علم الكلام حسب ما يقتضيه ظاهر لفظه ، ألا تراه قال له : كنت عازما على أن أعلِّمك القرآن وتفسيره والفقه وهو المعرفة بأحكام الشريعة ، ولا أجاوز ذلك بك إلى غيره ، ثم خفت أنْ تدخل عليك شبهة في أُصول الدين فيلتبس عليك في عقيدتك الأصلية ما التبس على غيرك من الناس ، فعدلتُ عن العزم الأوّل إلى أن أوصيك بوصايا تتعلّق بأصول الدين .
ومعنى قوله عليه السلام : «وكان إحكام ذلك» إلى قوله : «لا آمن عليك به الهلكة» ، أي فكان إحكامي الأمورَ الأصليّة عندك وتقرير الوصيّة التي أوصيك بها في ذهنك فيما رجع إلى النظر في العلوم الإلهية ؛ وإن كنت كارها للخوض معك فيه وتنبيهك عليه أحبّ إليّ من أن أتركك سدىً مهملاً ، تتلاعب بك الشّبَه ، وتعتورك الشكوك في أُصول دينك ، فربّما أفضى ذلك بك إلى الهَلكة ۱ . قوله عليه السلام : «قد عَمِرتُ مع أولهم إلى آخرهم» العين مفتوحة والميم مكسورة مخففة ، تقول : عمر الرجل يعمر عمرا وعُمراً على غير قياس ؛ لأنّ قياس مصدره التحريك أي عاش زماناً طويلاً ، واستعمل في القسم أحدهما فقط ، وهو المفتوح . قوله عليه السلام : «حيث عناني من أمرك» ، أي أهمّني ، قال :
* عَنَاني مِنْ صُدُودِكَ مَاعَنَاني *
قوله : «وأجمعت عليه» ، أي عزمت . ومقتبل الدهر ، يقال : اقتبل الغلام فهو مقتَبل بالفتح وهو من الشواذّ ، ومثله أحصن الرجل إذا تزوج فهو مُحصَن ، وإذا عفّ فمحصَن أيضا ، وأسهب إذا أطال الحديث فهو مسهَب ، وألفج إذا افتقر فهو ملفَج ؛ وينبغي أن يكون له من قوله : « تنبيهك له» بمعنى «عليه» ، أو تكون على أصلها ، أي ما كرهت تنبيهك لأجله .
فإن قلت : إلى الآن ما فسّرتَ ، لماذا كره تنبيهه على هذا الفنّ؟
قلت : بلى قد أشرت إليه ؛ وهو أنه كره أن يعدل به عن تفسير القرآن وعلم الفقه إلى

1.الصحيح أن وجه كراهة الإمام عليه السلام هو لتنبيه ولده أن يخلص ذهنه للنظر في معاني القرآن ، والأحكام الشرعية ، والمعرفة الشرعية الحاصلة بالفطرة . وهذا هو الأهم . وواضح لكل منصف أن هذه الوصية الخالدة ، وإن كانت مصدّرة إلى الإمام الحسن عليه السلام لكبر سنه ، ولكونه عظيم أهله ، لكنها في الحقيقة موجهة لسائر المؤمنين إلى يوم القيامة . وأمّا توجيه الخطاب إلى الأكبر والأجل والرئيس ، عادة جرى عليها العقلاء ، وورد بها القرآن ، وجرت عليها سنّة النبيّ الأقدس صلى الله عليه و آله وسلم في وصاياه .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 218376
صفحه از 800
پرینت  ارسال به