217
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

منها أن يرغب إلى اللّه في توفيقه وتسديده .
ومنها أن يطلب المطلوب النظري بتفهّم وتعلم ؛ لا بجدال ومغالبة وهِراء ومخاصمة .
ومنها اطّراح العصبية لمذهب بعينه ، والتورّط في الشبهات التي يحاول بها نصرة ذلك المذهب .
ومنها ترك الإلْف والعادة ، ونصرة أمر يطلب به الرياسة ؛ وهو المعنيّ بالشوائب التي تولج في الضلال .
ومنها أنْ يكون صافي القلب ، مجتمعَ الفكر ، غير مشغول السرّ بأمرٍ من جوع أو شِبع أو شبَق أو غضب ؛ ولايكون ذا هموم كثيرة ، وأفكار موزّعة مقسّمة ؛ بل يكون فكره وهمّه همّاً واحدا .
قال : فإذا اجتمع لك كلّ ذلك فانظر ، وإن لم يجتمع لك ذلك ونظرت كنت كالنّاقة العشواء الخابطة لا تهتدي ، وكمن يتورّط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه ! وليس طالب الدين مَنْ كان خابطاً أو خالطاً ، والإمساك عن ذلك أمثل وأفضل .

الأصْلُ:

۰.فَتَفَهَّمْ يَا بُنْيَّ وَصِيَّتِي ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ ، وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ ، وَأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ ، وَأَنَّ الْمُبتَلي هُوَ الْمُعَافِي ، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ النَّعْمَاءِ ، وَالاْءِبْتِلاَءِ ، وَالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ ، أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لاَ تعْلَمُ ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ به ، فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلاً ثُمَّ عُلِّمْتَ ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ ، وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ، ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذلِكَ!

الشّرْحُ:

قوله : «أو ما شاء ممّا لا تعلم» يجوز أن يريد عليه السلام أن اللّه تعالى قد يجازي المذنب في الدّنيا بنوع من العقوبة ، كالأسقام والفقر وغيرهما ، والعقاب وإن كان على وجه الاستحقاق والإهانة فيجوز لمستحقه وهو الباري أن يقتصر منه على الإيلام فقط ، لأنّ الجميع حقّه ، فله


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
216

فإن قلت : مَنْ سَلُفه هؤلاء الذين أشار إليهم؟
قلت : المهاجرون الأوّلون من بني هاشم وبني المطّلب كحمزة وجعفر والعباس وعبيدة ابن الحارث ، وكأبي طالب في قول الشِّيعة وكثير من أصحابنا ، وكعبد المطّلب في قول الشيعة خاصّة .
فإن قلت : فهل يكون أمير المؤمنين عليه السلام نفسه معدودا من جملة هؤلاء؟
قلت : لا ، فإنه لم يكن من أهل المبادئ والجمل المقتصر بهم في تكليفهم العقليّات على أوائل الأدلّة ، بل كان سيِّد أهل النظر كافّة وإمامهم .
فإن قلت : ما معنى قوله : لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم؟
قلت : لأنّهم إذا تأمّلوا الأدلّة وفكّروا فيها فقد نظروا لأنفسهم كما ينظر الإنسان لنفسه ليخلّصها من مضرّة عظيمة سبيلها أن تقع به إن لم ينظر في الخلاص منها : وهذا هو الوجه في وجوب النظر في طريق معرفة اللّه ، والخوف من إهمال النظر .
فإن قلت : ما معنى قوله : «إلى الأخذ بما عرفوا ، والإمساك عمّا لم يكلَّفوا»؟
قلت : الأخذ بما عرفوا ، مثل أدلّة حدوث الأجسام وتوحيد الباري وعدله ، والإمساك عمّا لم يكلّفوا ، مثل النّظر في إثبات الجزء الَّذي لا يتجزأ ونفيه ، ومثل الكلام في الخلا والملا ، وأمثال ذلك مما لا يتوقّف أُصول التوحيد والعدل عليه ، فإنه لا يلزم أصحاب الجمل والمبادئ أن يخوضوا في ذلك ؛ لأنهم لم يكلّفوا الخوض فيه ؛ وهو من وظيفة قوم آخرين .
واعلم أنّ ظاهر الكلام كونه يأمر بتقليد النبي صلى الله عليه و آله وسلموالأخذ بما في القرآن وترك النظر العقليّ ؛ هذا هو ظاهر الكلام ؛ ألا تراه كيف يقول له : الاقتصار على ما فرضه اللّه عليك ، والأخذ بما مضى عليه أهل بيتك وسلفك ؛ فإنّهم لما حاولوا النظر رجعوا بآخره إلى السمعيات ، وتركوا العقليات ؛ لأنّها أفضتْ بهم إلى ما لا يعرفونه ؛ ولا هو من تكليفهم .
ثم قال له : فإن كرهت التقليد المحض ، وأحببت أن تسلك مسلكهم في النّظر ، وإن أفضى بك الأمر بأخرة إلى تركه والعود إلى المعروف من الشرعيّات وما ورد به الكتاب والسنّة ، فينبغي أن تنظر وأنت مجتمع الهمّ خالٍ من الشبهة ، وتكون طالبا للحقّ ، غير قاصد إلى الجدل والمراء ؛ فلمَّا وجدنا ظاهر اللفظ يقتضي هذه المعاني ، ولم يجز عندنا أنْ يأمر أمير المؤمنين عليه السلام ولده مع حكمته وأهلية ولده بالتّقليد وترك النظر ، رجعنا إلى تأويل كلامه على وجه يخرج به عليه السلام من أن يأمر بما لا يجوز لمثله أن يأْمر به .
واعلم أنَّه قد أوصاه إذا همّ بالشروع في النظر بمحض ماذكره المتكلمون ، وذلك أُمور :

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 218379
صفحه از 800
پرینت  ارسال به