23
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

النَّوَاضِرُ ، وَخَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ ، وَلَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى ، وَتَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ ، وَتَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ ، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا ، وَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا ، وَطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا ؛ وَلَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً ، وَلاَ مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً . فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ ، أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ ، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ ، وَاكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ ، وَتَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا ، وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا ، وعَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلىً سَمَّجَهَا ، وَسَهَّلَ طُرُقَ الآفَةِ إِلَيْهَا ، مُسْتَسْلِمَاتٍ فَـلاَ أَيْدٍ تَدْفَعُ ، وَلاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ ، وَأَقْذَاءَ عُيُونٍ ، لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لاَ تَنْتَقِلُ ، وَغَمْرَةٌ لاَ تَنْجَلِي .
فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ ، وَأَنِيقِ لَوْنٍ ، كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ ، وَرَبِيبَ شَرَفٍ ! يَتَعَلَّلُ بالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ ، وَيَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ ، ضَنّاً بَغَضَارَةِ عَيْشِهِ ، وَشَحَاحَةً بَلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ ! فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَتَضْحَكُ الدُّنيا إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْش غَفُولٍ ، إِذْ وَطِيءَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ وَنَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ ، فَخَالَطَهُ بَثٌّ لاَ يَعْرِفُهُ ، وَنَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ ، آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ ، فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ ، وَتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بالْحَارِّ ، فَلَمْ يُطْفِى ءْ بِبَارِدٍ إِلاَّ ثَوَّرَ حَرَارَةً ، وَلاَ حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلاَّ هَيَّجَ بُرُودَةً ، وَلاَ اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ ؛ حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ ، وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ ، وَتَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ ، وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنْهُ ،
وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجَى خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ ، فَقَائِلٌ : هُوَ لَمَا بِهِ ، وَمُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ ، وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ ، يُذَكِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ .
فَبَيْنَا هُوَ كَذلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا ، وَتَرْكِ الْأَحِبَّةِ ، إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ ، فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ ، وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ . فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
22

الأيام والليالي تشيّع رائحاً إلى المقابر ، وتبكي وتنوح على الباقين الذين سيلتحقون به عن قريب . « أولئكم سلف غايتِكم» ، السلف : المقدّمون . والغاية : الحدّ الذي ينتهي إليه ، إمّا حسّياً أو معنويا ، والمراد هاهنا الموت . والفرُط : القوم يسبقون الحيّ إلى المنهل . ومقاوم العزّ : دعائمه ، جمع مقوم ، وأصلها الخشبة التي يمسكها الحرّاث . وحلَبات الفخر : جمع حَلْبة ، وهي الخيل تجمع للسباق . والسُّوَق ، بفتح الواو : جمع سُوقة ؛ وهو مَنْ دون الملِك .

الأصْلُ:

۰.سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلاً سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ ، فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ ، وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ ؛ فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ يَنْمُونَ ، وَضِمَاراً لاَيُوجَدُونَ ؛ لاَيُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ ، وَلاَ يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ ، وَلاَيَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ ، وَلاَ يَأذَنـُونَ لِلْقَوَاصِفِ . غُيَّباً لاَ يُنْتَظَرُونَ ، وَشُهُوداً لاَ يَحْضُرُونَ ، وَإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا ، وَأُلاّفاً فَافْتَرَقُوا ، وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ ، وَلاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ ، عَمِيَتْ اَخْبَارُهُمْ ، وَصَمَّتْ دِيَارُهُمْ ، وَلكِنَّهُمْ سُقُوا كَأساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً ، وَبِالسَّمْعِ صَمَماً ، وَبِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً ، فَكَأنـّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ .
جِيرَانٌ لاَ يَتَأ نّسُونَ ، وَأَحِبَّاءٌ لاَيَتَزَاوَرُونَ . بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الاْءِخَاءِ ، فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَهُمْ جَمِيعٌ ، وَبِجَانِبِ الْهَجْرِ وَهُمْ أَخِلاَّءُ . لاَ يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً ، وَلاَ لِنَهَارٍ مَسَاءً .
أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً ، شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا ، وَرَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا ، فَكِلْتَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ ، فَأتَتْ
مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ . فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَمَا عَايَنُوا .
وَلَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ ، وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ ، وَتَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ ، فَقَالُوا : كَلَحَتِ الْوُجُوهُ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213176
صفحه از 800
پرینت  ارسال به