247
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

كاذبة، كما قال تعالى : «يَقُولُونَ إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُريدُونَ إلاَّ فِرَارا»۱ ، ومنهم مَنْ تأخّر وصرّح بالقعود والخذلان ، كما قال تعالى : «فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ»۲ . والمعنى أنّ حاله كانت مناسبة لحال النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ومَنْ تذكر تدبّر أحوالهما وسيرتَهما ، وما جرى لهما إلى إن قبضا ، علم تحقيق ذلك .
ثم أقسم أنه لولا طمعه في الشهادة لما أقام مع أهل العراق ولا صحبهم .

36

الأصْلُ:

۰.ومن كلام له عليه السلام إلى أخيه
عقيل بن أبي طالب في ذكر جيشٍ أنفذه إلى بعض الأعداء
وهو جواب كتابٍ كتبه إليه عقيل :
فَسَرَّحْتُ إِلَيْهِ جَيْشاً كَثِيفاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذلِكَ شَمَّرَ هَارباً ، وَنَكَصَ نَادِماً ، فَلَحِقُوهُ بِبِعْض الطَّرِيقِ ، وَقَدْ طَفَّلَتِ الشَّمْسُ لِلاْءِيَابِ ، فَاقْتَتَلُوا شَيْئاً كَـلاَ وَلاَ ، فَمَا كَانَ إِلاَّ كَمَوْقِفِ سَاعَةٍ حَتَّى نَجَا جَرِيضاً بَعْدَمَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْمـُخَنَّقِ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ غَيْرُ الرَّمَقِ ؛ فَـلَأياً بِلَأيٍ مَا نَجَا .
فَدَعْ عَنْكَ قُرَيْشاً فِي الضَّلاَلِ ، وَتَجْوَالَهُمْ فِي الشِّقَاقِ ، وَجِمَاحَهُمْ فِي التِّيهِ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَبْلِي ، فَجَزَتْ قُرْيْشاً عَنِّي الْجَوَازِي ! فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي ، وَسَلَبُونِي سُلْطَانَ ابْنِ أُمِّي .

1.سورة الأحزاب ۱۳.

2.سورة التوبة ۸۱ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
246

وَقَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لِحَاقِهِ ، وَأَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ ، وَدَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَجَهْراً ، وَعَوْداً وَبَدْءًا ، فَمِنْهُمُ الآتِي كَارِهاً ، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً ، وَمِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلاً .
أَسْأَلُ اللّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجلاً ؛ فَوَاللّهِ لَوْلاَ طَمَعِي عِنْدَ لِقَائِي عَدُوِّي فِي الشَّهَادَةِ ، وَتَوْطِينِي نَفْسِي عَلَى الْمَنِيَّةِ ، لَأَحْبَبْتُ أَلاَّ أبْقى مَعَ هؤُلاَءِ يَوْماً وَاحِداً ، وَلاَ ألتَقِيَ بِهِمْ أَبَداً .

الشّرْحُ:

انظر إلى الفصاحة كيف تعطِي هذا الرّجل قيادها ، وتملّكه زمامها ؛ واعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه وتطاوعه ؛ سِلسة سهلة تتدفق من غير تعسّف ولا تكلّف ؛ حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال : «يوماً واحداً ، ولا ألتقي بهم أبدا» ، وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة جاءت القرائن والفواصل تارة مرفوعة ، وتارة مجرورة ، وتارة منصوبة ، فإن أرادوا قَسْرَها بإعراب واحد ظهر منها في التكلّف أثرٌ بيّن ، وعلامة واضحة ، وهذا الصِّنْف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ، ذكره عبد القاهر .
ثم إن فواصل كلّ واحد منهما تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية . ثم انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل ؛ كيف قال : « ولداً ناصحا» ، « وعاملاً كادحا» ، «وسيفا قاطعا» ، «وركنا دافعا» ، لو قال : «ولداً كادحا» و «عاملاً ناصحا» ، وكذلك ما بعده لما كان صوابا ، ولا في الموقع واقعا ، فسبحان اللّه من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة ! ولا غرو فيمن كان محمد صلى الله عليه و آله وسلم مربّيه ومخرِجه ، والعناية الإلهية تمدّه وترفُدُه أن يكون منه ما كان!
يقال : احتسب ولده ، إذا مات كبيرا ، وافترط ولده ، إذا مات صغيرا .
قوله : «فمنهم الآتي ...» ، قسَّم جنده أقساما ، فمنهم من أجابه وخرج كارها للخروج ، كما قال تعالى : «كَأَنّمَا يُسَاقُونَ إلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ»۱ ، ومنهم من قعد واعتلّ بعلة

1.سورة الأنفال ۶ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213072
صفحه از 800
پرینت  ارسال به