303
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

لاَ يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا ، وَلاَ يَجْتَرِؤُونَ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بِائِقَتُهُ ، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ .
وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ ، وَفِي حَوَاشِي بِلاَدِكَ . وَاعْلَمْ - مَعَ ذلِكَ - أَنَّ فِيكَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً ، وَشُحّاً قَبِيحاً ، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ ، فَامْنَعْ مِنَ الاْحْتِكَارِ ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَنَعَ مِنْهُ . وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ ، وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ . فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ .

الشّرْحُ:

خرج عليه السلام الآن إلى ذكر التّجار وذوي الصناعات ؛ وأمَرَه بأن يعمل معهم الخير ، وأن يُوصِيَ غيره من أُمرائه وعمّاله أن يعملوا معهم الخير . واستوصِ بمعنى « أوص» نحو قَرَّ في المكان واستقرّ ، وعلا قِرْنَه واستعلاه . وقوله : «استوصِ بالتجّار خيرا» ، أي أوصِ نفسك بذلك ، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم«استوْصوا بالنّساء خيراً» ؛ ومَفْعولا «استوصِ وأوصِ» هاهنا محذوفان للعلم بهما ، ويجوز أن يكون «استوصِ» ، أي اقبل الوصيّة منّي بهم ، وأوصِ بهم أنتَ غيرك .
ثمّ قسّم عليه السلام الموصّى بهم ثلاثة أقسام : اثنان منها للتجّار ، وهما المقيم ، والمضطرب ، يعني المسافر . والضّرب : السيرُ في الأرض ؛ قال تعالى : «إذَا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ»۱ .
وواحد لأرباب الصناعات ، وهو قوله : «والمترفّق ببدنه» ، ورُوِي «بيديه» ، تثنية يد . والمَطارِح : الأماكن البعيدة . وحيث لا يلتئم الناس : لا يجتمعون ، ورُوِي «حيث لا يلتئم » ؛ بحذف الواو .
ثم قال : «فإنّهم أولو سِلْم» ، يعني التجّار والصناع ، استعطفه عليهم ، واستماله إليهم ، وقال : ليسوا كعمال الخراج وأُمراءِ الأجناد ، فجانبُهم ينبغي أن يراعي ، وحالُهم يجب أن

1.سورة النساء ۱۰۱ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
302

على الاطلاع على الأسرار والمكايد والحِيَل والتدبيرات ، ومن لا يُبِطره الإكرام والتقريب ، فيطمعَ فيجترئ على مخالفته في مَلاَءٍ من الناس والردّ عليه ، ففي ذلك من الوَهَن للأمير وسوء الأدب الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاءَ به .
ثم قال عليه السلام : وليكن كاتبُك غيرَ مقصّر عن عرض مكتوبات عمّالك عليك ، والإجابة عنها حسن الوَكالة والنيابةِ عنك فيما يحتجّ به لك عليهم مِن مكتوباتهم ، وما يُصدِره عنك إليهم من الأجوبة ، فإن عَقَد لك عقداً قوّاه وأحكَمه ، وإن عَقد عليك عقداً اجتهد في نقضِه وحَلّه . قال : وأن يكون عارفاً بنفسه ، فمن لم يعرف قدرَ نفسِهِ لم يَعرِف قدرَ غيرِه . ثمّ نهاه أن يكون مستَند اختيارِه لهؤلاء فِراستُه فيهم ، وغلبةُ ظنّه بأحوالهم ، فإن التّدليس ينمّ في ذلك كثيرا ، وما زال الكتّاب يتصنّعون للأُمراء بحُسن الظاهر ، وليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة والمعرفة ، ولكن ينبغي أن يرجع في ذلك إلى ما حكمتْ به التجربةُ لهم ، وما وُلّوه من قبل ، فإن كانت ولايتُهم وكتابتُهم حسنةً مشكورةً فهم هم ، وإلاّ فلا ، ويتعرّفون لفراسات الوُلاة ، يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضُروب من التصنّع ، وروي «يتعرّضون» .
ثم أمَرَه أن يقسم فنونَ الكتابة وضروبَها بينهم ، نحو أن يكون أحدهم للرسائل إلى الأطراف والأعداء ، والآخر لأجوبة عمّال السواد ، والآخر بحضرة الأمير في خاصّته وداره ، وحاشيته وثقاته . ثم ذكر له أنّه مأخوذ مع اللّه تعالى بما يتغابَى عنه ، ويتغافل من عيوب كتّابه ، فإن الدّين لا يبيح الإغضاءَ والغفلةَ عن الأعوان والخَوَل ، ويوجب التطلّع عليهم .
واعلم أنّ الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين عليه السلام إليه هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العُرْفي وزيرا ؛ لأنّه صاحب تدبير حضرة الأمير ، والنائب عنه في أُموره ، وإليه تصل مكتوباتُ العمّال وعنه تصدر الأجوبة ، وإليه العَرْض على الأمير ، وهو المستدرِك على العمّال ، والمهيمِن عليهم ، وهو على الحقيقة كاتبُ الكتّاب ، ولهذا يسمّونه : الكاتب المطلَق .

الأصْلُ:

۰.ثُمَّ اسْتَوْص بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً ، الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ ؛ فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ ، وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ ، وَحَيْثُ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 249922
صفحه از 800
پرینت  ارسال به