349
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

قد تَكرّر ، وقال طَرَفة :

عن المرءِ لاَ تسأَلْ وسَلْ عن قَرِينِهفإنّ القَرِينَ بالمُقارن يَقتدِي
ومنها قوله : «واسكُن الأمْصار العظام» ، قد قيل : لا تسكن إلاّ في مصرٍ فيه سوقٌ قائمة ، ونهرٌ جارٍ ، وطبيبٌ حاذق ، وسلطانٌ عادل ، فأما مَنازل الغَفْلة والجفاء ، فمِثلُ قُرَى السّواد الصغار ، فإنّ أهلها لا نُورَ فيهم ، ولا ضوءَ عليهم ، وإنّما هم كالدّوابّ والأنعام ، هَمُّهم الحَرْث والفِلاحة ، ولا يفقهون شيئا أصْلاً ، فمجاوَرَتهم تُعْمِي القلب ، وتُظلِم الحِسّ ، وإذا لم يَجِد الإنسانُ مَنْ يُعينه على طاعةِ اللّه وعلى تَعلُّم العِلم قصَّر فيهما .
ومنها قوله : «واقصر رأيَك على ما يَعْنيك» ، كان يقال : من دَخَل فيما لا يَعْنيه فاتَه ما يَعْنيه . ومنها نَهيُه إيّاه عن القُعود في الأسْواق . قد جاء في المَثَل : السُّوق محلّ الفُسوق . وجاء في الخبر المرفوع : «الأسواقُ مَواطنُ إبليس وجندِه» ، وذلك لأنّها قلّما تخلو عن الأيْمان الكاذبة ، والبُيوع الفاسدة ، وهي أيضا مَجمَع النّساء المُومِسات ، وفجّار الرجال ، وفيها اجتماعُ أرباب الأهواء والبِدَع ، فلا يخلُو أن يتَجادَل اثنان منهم في المذاهب والنَّحِل فيُفضِي إلى الفِتَن .
ومنها قوله : «وانظر إلى من فُضِّلْتَ عليه» ، كان يقال : اُنظُر إلى مَن دُونَك ، ولا تَنظُر إلى مَنْ فَوْقَك . وقد بيّن عليه السلام السرّ فيه فقال : إنّ ذلك من أبواب الشّكر ، وصَدَق عليه السلام ؛ لأنّك إذا رأيتَ جاهلاً وأنتَ عالم ، أو عالما وأنت أعلَمُ منه ، أو فقيرا وأنتَ أغْنَى منه ؛ أو مُبتلىً بسَقَم وأنتَ مُعافىً عنه ، كان ذلك باعثا وداعِيا لك إلى الشكر .
ومنها نَهيهُ عن السّفر يومَ الجمعة ، ينبغي أن يكون هذا النهيُ عن السَّفَر يومَ الجمعة قبلَ الصلاة ، وأمّا بعدَ الصلاة ، فلا بأس به ، واستَثْنَى فقال : إلاّ فاصلاً في سبيل اللّه ، أي شاخِصا إلى الجهاد . «أو في أمرٍ تُعذَر به» ، أي لضرورة دَعَتْك إلى ذلك .
ومنها قولُه : «وأطعِ اللّهَ في جُمَل أُمورك» ، أي في جُمْلَتها ، وفيها كلّها ، وليس يَعنِي في جُملَها دونَ تَفاصِيلها ، قال : فإنّ طاعةَ اللّه فاضلةٌ على غيرها ، وصَدَق عليه السلام ؛ لأنّها توجب السعادةَ الدائمة ، والخلاصَ من الشّقاء الدائم ، ولا أفضلَ ممّا يؤدِّي إلى ذلك .
ومنها قوله : «وخادِعْ نَفسَك في العبادة» ، أمَرَه أن يَتلطّف بنفسه في النّوافل ، وأن يُخادِعَها ولا يقْهَرها فتَملَّ وتَضجَر وتترُك ، بل يأخذ عفوَها ، ويتوخّى أوقات النشاط ، وانشراحَ الصّدر للعبادة .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
348

تذهب الحَفِيظة .
ومنها قوله : «واصفحْ مع الدّولة تكنْ لكَ العاقبة» ، هذه كانت شيمةُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وشيمة عليّ عليه السلام ؛ أمَّا شيمهُ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فظفِرَ بمشركي مَكّة وعفا عنهم ، كما سَبَقَ القولُ فيه في عام الفَتْح ؛ وأمَّا عليّ عليه السلام فَظفِر بأصحاب الجمل وقد شَقّوا عصا الإسلام عليه ، وطَعَنوا فيه وفي خلافتِه ، فعفا عنهم ، مع علمِه بأنّهم يُفسدون عليه أمره فيما بعد ، ويَصِيرون إلى معاوية إمَّا بأنفسهم أو بآرائهم ومكتوباتهم ، وهذا أعظمُ من الصّفح عن أهل مكّة ؛ لأنّ أهل مكّة لم يَبقَ لهم لمّا فُتِحت فئةٌ يتحيّزون إليها ، ويُفسِدون الدّين عندها .
ومنها قوله : «واستَصلح كلّ نعمةٍ أنعَمها اللّه عليك» ، معنى استَصلِحْها استَدِمْها ؛ لأنَّه إذا استدامها فقد أصلَحها ، فإنَّ بقاءها صلاحٌ لها ، واستدامتها بالشكر .
ومنها قوله : «ولا تضيّعنّ نعمة من نعم اللّه عندَك» ، أي واس الناسَ منها ، وأحسِنْ إليهم ، واجعلْ بعضها لنَفْسك وبعضها للصّدقة والإيثار ، فإنَّك إن لم تفعلْ ذلك تكنْ قد أضَعْتَها .
ومنها قوله : «وليُرَ عليك أثرُ النّعمة» ، قد أمَر بأنْ يُظهر الإنسانُ على نفسِه آثارَ نعمةِ اللّه عليه ، وقال سبحانه : «وأمَّا بنعمةِ رَبِّكَ فحدِّثْ»۱ .
ومنها قوله : «واعلم أنّ أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسِه وأهله وماله» ، أي أفضلهم إنفاقا في البرّ والخير من مالِه ، وهي التَّقدمة ، قال اللّه تعالى : «وَمَا تقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ»۲ ، فأمّا النفس والأهل ، فإنّ تقدِمتهما في الجهاد ، وقد تكون التّقدمة في النّفس بأن يَشفع شفاعةً حسنةً أو يحضر عند السّلطان بكلام طيّب ، وثناءٍ حَسَن ، وأن يُصلِح بين المُتخاصِمَين ، ونحو ذلك ، والتَّقدِمة في الأهل أن يحجّ بوَلَده وزَوْجته ويكلِّفهما المشاقّ في طاعة اللّه ، وأن يؤدِّب ولده إن أذنَب ، وأن يقيمَ عليه الحدّ ، ونحو ذلك .
ومنها قوله : «وما تقدّم من خير يَبق لك ذُخُره وما تؤخره يكنْ لغيرك خيرُه» ، قد سبق مثلُ هذا ، وأنّ ما يتركُه الإنسانُ بعده فقد حُرِم نفعه ، وكأنّما كان يكدَح لغيره ، وذلك من الشّقاوة وقلّة التوفيق .
ومنها قولُه : «واحذر صَحابَة مَن يَفِيلُ رأيه» ، الصَّحابة بفتح الصاد ، مَصدَر صحبت والصَّحابة بالفتح أيضا جَمعُ صاحب ، والمرادُ هاهنا الأوّل ، وفالَ رأيُه : فَسَد ؛ وهذا المعنى

1.سورة الضحى ۱۱ .

2.سورة البقرة ۱۱۰ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213203
صفحه از 800
پرینت  ارسال به