469
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

يَكسِب الإنسانَ الطّاعة في حَياته ، أي مَنْ كان عالما كان للّه تعالى مُطيعا ، كما قال سبحانه : «إنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاء»۱ . ثم قال : «وجميل الأُحدوثة بعد وفاتِه » ، أي الذّكر الجميل بعد مَوْتِه .
ثم شرع في تفضيل العِلم على المال من وجهٍ آخَر ، فقال : «العلمُ حاكِم ، والمال محكومٌ عليه » ، وذلك لعِلْمك أنّ مَصلحَتَك في إنفاق هذا المال تُنفّقه ، ولِعِلمك بأنّ المصلحة في إمساكه تمسّكه ، فالعِلم بالمصلحة داعٍ ، وبالمَضَرّة صارف ؛ وهما الأمْران الحاكمان بالحَرَكات والتصرّفات إقداما وإحْجاما ، ولا يكون القادر قادرا مختارا إلاّ باعتبارهما ؛ وليسا إلاّ عبارةً عن العِلم أو ما يجري مَجرَى العِلم من الاعتقاد والظّنّ ، فإذَنْ قد بان وظهرَ أن العلم من حيثُ هُوَ علمٌ حاكم ، وأنّ المال ليس بحاكم ، بل محكوم عليه .
ثم قال عليه السلام : «هَلك خُزّان المال وهم أحياء» ؛ وذلك لأنّ المالَ المخزون لا فرق بينه وبين الصّخرة المدفونة تحتَ الأرض ، فخازِنه هالك لا مَحالَة ؛ لأنّه لم يلتذّ بإنفاقه ، ولم يَصرِفْه في الوجوه الّتي نَدَب اللّهُ تعالى إليها ، وهذا هو الهلاك المَعْنَويّ ، وهو أعظمُ من الهلاك الحِسّيّ .
ثم قال : «والعلماءُ باقون مابقيَ الدهر» ، هذا الكلامُ له ظاهر وباطن ، فظاهرُه قولُه : « أعيانُهم مفقودة ، وأمثالُهم في القلوب موجودة» ، أي آثارُهم وما دَوّنوه من العُلوم ، فكأنّهم موجودون ، وباطنه أنّهم موجودون حقيقةً لا مَجازا ، على قولِ مَن قال ببقاء الأنْفس . وأمثالهم في القلوب : كنايةٌ ولُغز ، ومعناه ذواتُهم في حظيرة القُدّوس ، والمُشارَكة بينها وبين القلوب ظاهرة ؛ لأنّ الأمر العامَّ الّذي يَشمَلُهما هو الشّرف ، فكما أنّ تلك أشرَفُ عالَمها ، كذا القلبُ أشرَفُ عالمه ، فاستُعير لفظُ أحدِهما وعُبِّر به عن الآخر .
قوله عليه السلام : «ها إنّ هاهنا لَعِلما جَمّا ، وأشار بيَدِه إلى صدره» ، هذا عندي إشارةٌ إلى العِرْفان والوُصول إلى المقام الأشرَف الّذي لا يصل إليه إلاّ الواحد الفَذّ من العالَم ممّن للّه تعالى فيه سرّ ، وله به اتّصال . ثم قال : «لو أصبت له حَمَلةً !» ، ومن الّذي يُطيق حَمْله ! بل مَن الذي يُطِيق فهمَه فضلاً عن حَملِه ! ثم قال : «بلى أُصيب» . ثمّ قسّم [ الذين ] يصيبهم خمسةَ أقسام :

1.سورة فاطر ۲۸ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
468

ثمّ شرع عليه السلام في ذِكر العلْم وتفضيلِه على المال ، فقال : «العلم يَحرُسك ، وأنت تَحرُس المال» ، وهذا أحدُ وجوه التّفضيل .
ثمّ ابتدأ فَذَكَر وجها ثانيا ؛ فقال : المالُ يَنقُص بالإنفاق منه ، والعلم لا يَنقُص بالإنفاق بل يَزْكو ؛ وذلك لأنّ إفاضةَ العلم على التلامذة تفيد المُعلّمَ زيادةَ استعداد ، وتُقرِّر في نفسه تلك العلوم الّتي أفاضها على تلامذته ، وتثبّتها وتزيدها رسوخا .
فأمّا قوله : «وصَنيعُ المال يزولُ بزواله» ، فتحته سرّ دقيق حكميّ ؛ وذلك لأنّ المال إنّما يَظهر أثرُه ونفعُه في الأُمور الجِسْمانية ، والملاذّ الشَّهوانيّة ، كالنّساء والخيل والأبْنية والمأكَل والمشرَب والمَلابس ونحو ذلك ؛ وهذه الآثار كلُّها تزول بزوال المال أو بزوال رَبِّ المال ؛ ألا تَرَى أنّه إذا زال المالُ اضطُرّ صاحبُه إلى بَيْع الأبنية والخيل والإماء ، ورَفَض تلك العادة من المآكل الشهيّة ، والملابس البهيّة ! وكذلك إذا زال ربُّ المالِ بالمَوْت ، فإنّه تزول آثارُ المالِ عندَه ؛ فإنّه لا يَبقى بعد الموت آكِلاً شارباً لابسا ، وأمّا آثار العِلم فلا يمكن أن تزولَ أبدا والإنسان في الدّنيا ، ولا بعدَ خروجه عن الدّنيا ؛ أمّا في الدنيا فلأنّ العالِمَ باللّه تعالى لا يَعود جاهلاً به ؛ لأنّ انتفَاء العلوم البديهيّة عن الذّهن وما يَلزَمها من اللَّوازم بعدَ حصولها مُحال ، فإذا قد صَدَق قولُه عليه السلام في الفَرْق بين المال والعِلم : إنّ صنيع المال يَزولُ بزواله ، أي وصنيع العلم لا يَزول ، ولا يحتاج إلى أن يقول : «بزَواله» ؛ لأنّ تقديرَ الكلام : وصنيع المال يزول ؛ لأنّ المالَ يَزول ؛ وأمّا بعد خروج الإنسانِ من الدّنيا فإنّ صنيعَ العِلْم لا يزول ؛ وذلك لأنّ صنيعَ العِلم في النّفس الناطقة للّذّة العقليّة الدائمة لدوام سببها ، وهو حصولُ العِلم في جَوْهر النفس الّذي هو مَعشُوق النّفس مع انتفاء ما يُشغِلها عن التمتّع به ، والتلذُّذ بمصاحبته ؛ والّذي كان يشغِلها عنه في الدّنيا استغراقُها في تدبير البدن ، وما تُورِدُه عليها الحواسّ من الأُمور الخارجيّة ، ولا ريبَ أنّ العاشق إذا خلا بمَعشوقِه ، وانتفَتْ عنه أسبابُ الكَدَر ، كان في لذَّة عظيمة ، فهذا هو سرُّ قولِه : «وصنيع المال يزول بزَواله» .
فإن قلت : ما معنى قولِه عليه السلام : «معرفةُ العِلْم دينٌ يُدانُ به» ، وهل هذا إلاّ بمنزلة قولك : معرفةُ المَعرِفة أو عِلم العِلم ! وهذا كلامٌ مضطرِب .
قلت : تقديرُه : معرفَةُ فَضْل العلم أو شَرفِ العلم ، أو وُجوب العلم دِينُ يدانُ به ، أي المعرفة بذلك من أمرِ الدّين ، أي رُكنٌ من أركان الدّين واجبٌ مفروض .
ثمّ شَرَح عليه السلام حالَ العِلْم الّذي ذكر أنّ معرفَة وجُوبه أو شرفه دِينٌ يُدانُ به ، فقال : العِلم

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213179
صفحه از 800
پرینت  ارسال به