47
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

قال الطبريّ : فروى صالح بن كيسان ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : لمّا دفن عمر أتيتُ عليّاً عليه السلام ، وأنا أحبّ أن أسمعَ منه في عمر شيئاً ، فخرج ينفُض رأسه ولحيته ، وقد اغتسَل ، وهو ملتحِفٌ بثوب لا يشكّ أنّ الأمر يصير إليه ، فقال : رحم اللّه ابن الخطاب ! لقد صدقت ابنَةُ أبي حَثْمة : « ذهب بخيرها ، ونجا من شرها » ، أما واللّه ما قالت ، ولكن قُوّلت !
وهذا كما ترى يقوّى الظنّ ؛ أن المراد والمعنيّ بالكلام إنّما هو عمر بن الخطاب .
قوله : «فلقد قَوّم الأوَد» ، أي العِوَج ، أوِد الشيء بالكسر يأوَدُ أوَدا ، أي اعوجّ ، وتأوّد العود ، يتأوّد . والعَمَد : انفضاخُ سنام البعير ، ومنه يقال للعاشق : عَمِيد القلب ومعموده . قوله : «أصَاب خيرَها» أي خير الولاية ، وجاء بضميرها ولم يجرِ ذكرها لعادة العرب في أمثال
ذلك ، كقوله تعالى : «حَتَّى تَوَارَتْ بالحِجَابِ»۱ . وسبق شرّها ، أي مات أو قتل قبل الأحداث والاختلاط الذي جرى بين المسلمين . قوله : «واتّقاه بحقّه» ، أي بإداء حقه والقيام به .
فإن قلت : وأيّ معنى في قوله : «واتقاه بأداء حقّه» ؟ وهل يتقي الإنسان اللّه بأداء الحق ! إنما قد تكون التقوى علّة في أداء الحقّ ، فأما أن يتّقي بأدائه فهو غير معقول؟
قلت : أراد عليه السلام أنّه اتّقى اللّه ، ودلّنا على أنه اتّقى اللّه بأدائه حقه ، فأداء الحقّ علّة في علمنا بأنه قد اتّقى اللّه سبحانه .
ثم ذكر أنّه رَحَل وترك النّاس في طرق متشعّبة متفرّقة ، فالضالّ لا يهتدى فيها ، والمهتدي لا يعلم أنه على المنهج القويم . وهذه الصفات إذا تأملها المنصف ، وأماط عن نفسه الهوى ، علم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يَعْنِ بها إلاّ عمر ۲ .

1.سورة ص۳۲ .

2.قال الحجاف الزيدي : لا يبعد عندي أنه عليه السلام عنى به بعض أصحابه كالأشتر ، وقد ثبت أنّ الفساد في أصحابه إنّما استشرى بعد موت الأشتر وظهر فيهم الخلاف والخذلان والالتواء . وأقرب من ذلك عندي أن يكون عليه السلام عنى بذلك نفسه ، وحدّث عما قام به من الحق ، وعما يقع بعده من الفتن ، ولم يلتبس الحق حتى لم يستيقن المهتدي إلاّ بعد فقده ، أمّا في حياته فقد كان أتباعه المهتدون مستيقنين ، أمّا عمر فلم تقع الفتنة عقيب فقده بل تراخت زماناً ، فما نسبة انتفائها إليه بأولى من نسبته إلى من تقدّمه ، واللّه أعلم . ( إرشاد المؤمنين ، السيد يحيى الحجاف من أعلام الزيدية ج۲:۶۴۸ تحقيق محمد جواد الجلالي ) . وذهب السرخسي في كتابه ( أعلام نهج البلاغة : ص۱۹۲ ط۱۴۱۵۰ بتحقيق العطاردي ) : إلى أنّ الإمام عليه السلام مدح بعض أصحابه بحسن السيرة ، وأنّه مات قبل الفتنة التي وقعت بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . كما أنّ الحكيم ابن ميثم البحراني (۶۷۹ ه) في شرحه ، شكّك في إرادته عليه السلام لعمر أو عثمان ، فقال : « بل إرادته لأبي بكر أشبه من إرادته لعمر ، لما ذكره في خلافة عمر وذمِّها به في خطبته المعروفة بالشقشقية » كما جوّز أن يكون مدحه ذاك لأحدهما (عمر أو أبي بكر) في معرض توبيخ عثمان بوقوع الفتنة في خلافته . أقول : وكذلك ، فإن الإمام عليه السلام ذم أبابكر وخلافته في شقشقيته ، وأشركه مع عمر في ظلمه له ونهب تراثه واستبعاده ، بقوله (لشدّ ما تشطّرا ضرعيها) أي اقتسما الخلافة فأخذ كلّ منهما شطراً ، (فصيّرها في حوزة خشناء ...) كما أن أبا بكر لم يخلّف الفتنة وعليه فلا يمكن أن يكون المراد أبابكر . وكلام الإمام عليه السلام لبني عبد المطلب بعد حادثة الشورى يشكف بصراحهه عن طعنه عليهما معاً وزرايته لهما ، ذكره ابن أبي الحديد في شرحه ۹:۵۴ ، قال عليه السلام لبني أبيه : « يا بني عبد المطّلب ، إنّ قومكم عادوكم بعد وفاة النبيّ كعداوتهم النبيّ في حياته ، وإن يطِع قومُكم لا تؤمَّروا أبداً ؛ وواللّه لا ينيب هؤلاء إلى الحقّ إلاّ بالسيف » . قال : وعبد اللّه بن عمر بن الخطاب ، داخلٌ إليهم ، قد سمع الكلام كلَّه فدخل ، وقال : يا أبا الحسن ، أتريد أن تضرب بعضهم ببعض ! فقال : اسكت ويحك ! فو اللّه لو لا أبوك وما ركب منّي قديماً وحديثاً ، ما نازعني ابنُ عفّان ولا ابنُ عوف . فقام عبد اللّه فخرج . وغيرها في مواطن كثيرة ، أظهر شكواه وتبرّمه منهما ومن قريش جميعاً . وأمّا ما نقله الشارح عن الطبري ، فالطبري متحيّز بل مخالف ، والمتحيّز لا ينظر بعين الحق ، ورواية المخالف لنفسه غير مقبولة . وأصل الكلام فيه ، حكاه الإمام عليه السلام : « أما واللّه ما قالت ، ولكن قوّلت » بمعنى أنّها ما قالته من نفسها ، ولكن أُجبرت وحمّلت على قوله . وليس فيه من المدح الشيء المهم ، وفي العبارة الأخيرة ذمّ وشكوى في صورة المدح والثناء « رحل وتركهم في طرق متشعبة ، لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي » . ويظهر من الطبري أيضاً أنه ليس من كلام الإمام عليه السلام ، بل هو من كلام « ابنة أبي حثْمة » ، وأنّ الإمام عليه السلام صدّقها في كلمتين « ذهب بخيرها ونجا من شرّها » . وروى ابن شبّة النميري القضية بهذه الصورة : بلغنا أنّ عبد اللّه بن عيينة الأزدي حليف بني المطلب ، قال : لما انصرفنا مع عليّ عليه السلام من جنازة عمر ، دخل فاغتسل ، ثمّ خرج إلينا ، فَصَمَتَ ساعة ، ثم قال : « للّه بلاء نادبة عمر ، قالت : واعمراه أقام الأود ، واعمراه ، ذهب نقي الثوب ، قليل العيب واعمراه ، أقام السنة وخلّف الفتنة . ثم قال : « واللّه ، مادرتْ هذا ، ولكنها قوَّلَته ، وصدقت واللّه ، أصاب عمر خيرها وخلّف شرّها ... » تاريخ المدينة المنورة ، ابن شبة النميري ۳:۹۴۱ ـ ۹۴۲ ، تحقيق فهيم محمد شلتوت . أقول : فهل يصحّ الاستدلال بكلامٍ مجهول قائله ؟ قد أُلقي إلى النادبة ، وقوّلته ، وما قالته من نفسها ، وواضح أنّ الإمام عليه السلام كرر كلام النادية متعجباً منه ، متهكماً به ومستغرباً ؛ لأنّه تقويل لا صحة له . وأخيراً يرجّح كثير مِن المحققين أنّ هذا الكلام موضوع مختلق جملة وتفصيلاً ، مخالف لكثير من أُصول ومواضعات مذهب الحق ، وهو خلاف الأخبار المتواترة والسيرة المحفوفة بالقرائن والشواهد من أنّ الإمام عليه السلام كان كثير الاستياء والتشكّي من رجال الخلافة ؛ ليؤكد مظلوميته ، وحقانيته كوصي للنبي صلى الله عليه و آله وسلم وحجة للّه تعالى في أرضه .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
46

223

الأصْلُ:

۰.ومن كلام له عليه السلام۱
:
ومن كلام له عليه السلام ۲
:
للّهِ بِلادُ فُـلاَنٍ ، فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ ، وَدَاوَى الْعَمَدَ ، وَأَقَامَ السُّنَّةَ ، وَخَلَّفَ الْفِتْنَةَ!
ذَهَبَ نَقِيَّ الثَّوْبِ ، قَلِيلَ الْعَيْبِ . أَصَابَ خَيْرَهَا ، وَسَبَقَ شَرَّهَا .
أَدَّى إِلَى اللّهِ طَاعَتَهُ ، وَاتَّقَاهُ بِحَقِّهِ . رَحَلَ وَتَرَكَهُمْ فِي طُرُقٍ مَتَشَعِّبَةٍ ، لاَ يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ ، وَلاَ يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي .

الشّرْحُ:

العرب تقول : للّه بلادُ فلان ، وللّهِ دَرُّ فُلان ، وللّهِِ نادي فُلاَنٍ ، وللّهِِ نائِحُ فُلاَنٍ ! والمراد بالأول : للّهِِ البِلاَدُ الَّتِي أنشأتْهُ وأنبتَتْهُ ، وبالثّاني : للّهِِ الثَّدْي الذي أرْضَعَهُ ، وبالثالثِ : للّهِِ المجْلِسُ الَّذِي رُبِّيَ فيهِ ، وبالرابع : للّهِ النَّائِحَةُ الَّتي تَنُوحُ عَلَيْهِ وَتنْدبُه ! ماذا تَعْهَدُ من مَحَاسِنِهِ ! ويُروى : « للّه بلاءُ فلان !» ، أي للّهِ ما صنع ! وفلان المكنى عنه عمر بن الخطّاب .
وسألتُ عنه النّقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العَلوِيّ ، فقال لي : هو عمر ، فقلت له : أيُثنِي عليه أميرُ المؤمنين عليه السلام هذا الثناء ؟ فقال : نعم ؛ أمّا الإماميّة فيقولون : إنّ ذلك من التَّقيّة واستصلاح أصحابه . وأمّا الصّالحيّون من الزيْديّة فيقولون : إنّه أثنى عليه حقّ الثناء ، ولم يضع المدح إلاّ في موضعه ونصابه . وأمّا الجاروديَّة من الزيديّة فيقولون : إنّه كلام قاله في أمر عثمان أخرجه مُخرَج الذمِّ له ، والتنقّص لأعماله ، كما يُمدَحُ الآن الأميرُ الميّت في أيام الأمير الحيّ بعده ، فيكون ذلك تعريضا به .
فأمّا الراونديّ ، فإنه قال في الشرح : إنّه عليه السلام مدح بعض أصحابه بحسن السيرة ، وأنّ الفتنة هي التي وقعت بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من الاختيار والأثَرة .

1.ورد في كثير من نسخ نهج البلاغة (الخطيّة والمطبوعة) عبارة : ( من كلام له عليه السلام يريد بعض أصحابه) فحذف منها ابن أبي الحديد عبارة : (يريد به بعض أصحابه) ؛ ليسجّل فيما بعد أنّ الخطبة وردت في مدح (عمر) لحاجة في نفسه ، واستدل لما ذهب إليه بخبر الطبري وتأييد أبي جعفر النقيب .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213051
صفحه از 800
پرینت  ارسال به