471
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

ثمّ استنزَرَ عَددُهم فقال : «وكم ذا ؟» ، أي كم ذا القَبِيل ؟ وكم ذا الفريق ؟ ثم قال : « وأين أولئك ؟» استَبهَم مكانَهم ومحلَّهم . ثم قال : هم الأقلّون عَدداً ، الأعْظمون قَدْرا .
ثمّ ذكر أنّ العِلم هجم بهم على حقيقة الأمر ، وانكَشَف لهم المستور المغطَّى ، وباشَروا راحَة اليقين وبَرْدَ القَلْب وثَلْج العلم ، واستَلاَنوا ما شَقّ على المترَفين من النّاس ، ووعر عليهم نحو التوحّد ورفض الشّهوات وخُشونة العيشة . «وأنسِوا بما استَوحَش منه الجاهلون» ، يعني العُزْلَة ومجانَبةَ الناس ، وطول الصّمت ، وملازَمة الخَلْوة ؛ ونحوَ ذلك ممّا هو شِعار القوم . « وصَحِبوا الدّنيا بأرواحٍ أبدانُها معلَّقةٌ بالَمحَلّ الأعلى» ، هذا ممّا يقوله أصحابُ الحِكمة مِن تعلّق النفوس المجرَّدة بمبادئها من العقول المفارقة ، فمن كان أزكَى كان تعلُّقُه بها أتَمَّ . ثم قال : « أولئك خُلفاء اللّه في أرضِه ، والدعاةُ إلى دينه» ، لا شُبهةَ أنّ بالوصول يستحقّ الإنسان أن يسمَّى خليفة اللّه في أرضِه ، وهو المعني بقوله سبحانه للملائكة «إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة»۱ ، وبقوله : «هُوَ الذي جَعَلكُمْ خَلائِفَ الأرْض»۲ .
ثم قال : «آهِ آهِ شوقا إلى رؤيتهم !» ، هو عليه السلام أحقّ الناس بأنَ تشتاق إلى رؤيتهم ؛ لأنّ الجنسية عِلّة الضمّ ، والشيء يشتاق إلى ما هو من سِنْخِه وسُوسَتِه وطبيعته ، ولما كان هو عليه السلام شيخ العارفين وسيّدَهم ، لا جَرَم اشتاقت نفسه الشريفةُ إلى مُشاهدةِ أبناءِ جنسِه ، وإن كان كلُّ واحد من الناس دونَ طبقته .
ثم قال لِكمَيل : «اِنصرف إذا شئت» ، وهذه الكلمة من محاسِن الآداب ، ومن لطائف

1.سورة البقرة ۳۰ .

2.سورة الأنعام ۱۶۵ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
470

أحدهم : أهلُ الرّياء والسُّمْعة ؛ الذين يُظهِرون الدّين والعلم ومقصودُهم الدّنيا ، فيَجعَلون الناموس الدِّيني شَبَكة لاقتناص الدّنيا .
وثانيها : قومٌ من أهل الخير والصّلاح ليسوا بذَوِي بَصيرة في الأُمور الإلهيّة الغامضة ، فيخاف من إفشاء السرّ إليهم أن تَنقدِح في قلوبهم شُبْهة بأدنَى خاطر ؛ فإنّ مَقَام المعرفة مَقَامٌ خَطِر صَعْب لا يَثبُت تحتَه إلاّ الأفرادُ من الرّجال ، الذين أُيِّدوا بالتّوفيق والعصمة .
وثالثها : رجلٌ صاحبُ لَذَّات وَطَرب مشتهِر بقضاء الشّهوة ، فليس من رجالِ هذا الباب .
ورابعُها : رجلٌ يجمَعْ المال وادّخارِه ، لا يُنفِقه في شَهَواته ولا في غيرِ شَهَواته ، فحكمُه حكمُ القِسْم الثالث .
ثم قال عليه السلام : «كذلك يَمُوت العلمُ بموت حامِلِيه» ، أي إذا مِتُّ ماتَ العلمُ الذي في صدري ؛ لأني لم أجد أحدا أدفعُهُ إليه ، وأُوَرِّثُه إيّاه ، ثم استَدرك فقال : اللّهمّ بلى ، لا تخلو الأرضُ من قائمٍ بحجّة للّه تعالى ، كَيْلا يخلوَ الزمان ممّن هو مهيمِنٌ للّه تعالى على عبادِه ، ومسيطِرٌ عليهم ؛ وهذا يكاد يكونُ تصريحا بمَذهب الإماميّة ، إلاّ أنّ أصحابَنا يحملونه على أنّ المراد به الأبْدال الذين وردتْ الأخبارُ النبويّة عنهم أنّهم في الأرض سائحون ، فمنهم من يُعرَف ، ومنهم من لا يُعرَف ، وإنهم لا يموتون حتّى يودعُوا السرّ ، وهو العِرْفان ، عند قومٍ آخَرين يقومون مَقامَهم ۱ .

1.هذا الكلام الذي قاله أمير المؤمنين عليه السلام لكميل رحمه الله ، قد تواتر نقله عن أهل السنّة والشيعة ، فمن السنّة ، ابن عبد ربّه الأندلسي في العقد الفريد ۲:۶۹ ، وأبو هلال العسكري في ديوان المعاني ۱:۴۱ ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص : ص ۱۴۱ ، وأبو جعفر الإسكافي في المعيار والموازنة . ومن الشيعة رواه الكليني في الكافي ۱:۱۷۸ ح۷ ، والصدوق في كمال الدين : ص ۲۸۹ / ح۲ و ۳۰۲ / ح۱۰ ، والشيخ المفيد في الإرشاد : ص ۱۲۲ . وغيرهم . وأمّا قول الشارح ابن أبي الحديد : ( وهذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الإمامية وأصحابنا يحملونه على أن المراد به الأبدال ... الخ) . أقول : إن تأويله أو صرفه النصّ إلى الأبدال ورؤساء الصوفية ، أهل الشطح والتخيّلات البعيدة عن معاهد العلم والقرآن والسنّة ، فقول بعيد أجراه على هواه ومذهب أصحابه ، فلا يلتفت إليه . ثمّ من هؤلاء الأبدال الذين يتبجح بذكرهم ؟ هل هم من الجن أم من الملائكة أم ماذا؟ «إن هي الاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان» سورة النجم ۲۳ . ولماذا لم يحمل أخبار الأبدال على أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله وسلم الأئمة الاثني عشر عليه السلام كما هي القاعدة من حمل المجمل على المفصّل ، والمشكوك على المتيقّن ؟ وما يفعل بقوله عليه السلام : «اِما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا» . فأي بدل من أولئك الأبدال كان ظاهرا مشهورا ؟ وأيهم كان خائفا مغمورا ؟ وكيف ، وكلامه عليه السلام يشمل الأنبياء عليهم السلام ! مثل قوله عليه السلام : «لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة» ، ومعلوم أن الأنبياء من القائمين للّه بحجّة بلا خلاف . فلابد أن المراد بالحجة هم الأنبياء ، ومن كان بمنزلتهم من أوصيائهم المعصومين ، ولم يكن بعد نبيّنا صلى الله عليه و آله وسلم من يكون مثله في عصمته وعلمه ومنزلته ، ومن تقوم به الحجة سوى الأئمة الاثني عشر من أهل بيته عليهم السلام بإجماع الأُمّة . نهج الصباغة في شرح نهج البلاغة للعلاّمة التستري ۲:۵۱۶ ـ ۵۲۰ بتصرّف .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213107
صفحه از 800
پرینت  ارسال به